تمضي العصور، وتتّابع الدهور، وتتعاقب الأحقاب على الإنسان، وفي كل يوم تطلع شمسه يكتشف ويتعرف على أشياء لم يكن اكتشفها أو تعرف عليها من قبل. وتظل عجلة الزمن تدور.. تلتقط عينه صوراً جديدة، في فيلم الحياة الطويل.. في كل يوم يمر تتطور مواهب الإنسان وقدراته العقلية، فيكشف أنه أشبه بالراحل في قارات المجهول، يرى في كل لحظة صوراً لم يكن قد رآها من قبل. والحقيقة أن العقل البشري هو في رحلة لا تتوقف، يسير في دنيا الكشف والابتكار.. حتى أصبح الإنسان يضيق ذرعاً بالمبتكرات التي تراكمت داخل جمجمته وعقدت حياته، وربما حولتها إلى متاهات متعرجة، متقاطعة عليه أن يسير على خطوطها بفطنة وحذر!! غير أن الإنسان رغماً عن قوته، وعظمته، وغروره، لم يتغلب بعد على كل مواطن ضعفه، فلا يزال يعاني معاناة شديدة تجاه عجزه أمام أشياء وجهله بأشياء كثيرة. لا يزال يجهل الكثير الكثير عن مجاهل نفسه، فالنفس البشرية - رغم كثرة الدراسات - لا تزال أشبه شيء بالأدغال التي لم تطأها قدم إنسان. لا يزال الإنسان يجهل الكثير من الخبايا الباطنة في أغواره يتحسسها ويحاول التعرف عليها بالتكهن، وذلك بسبب الجهل بخباياها، وعدم الاطمئنان العلمي في الوصول إلى مكوناتها. لم تتخلص النفس بسبب هواجس الظن، والخوف والبحث عن الطمأنينة من اللجوء إلى أساليب ربما قد تكون سخيفة، وربما يرفضها العقل في هذا العصر المزدحم بالمبتكرات العلمية، فهناك هوة في الذات مجهولة الملامح، لم يتمكن العلم من التعرف عليها، ومن ثم السيطرة على معاناتها.. لهذا السبب ورغماً عن تطور العصر، وحضارته الصناعية فلا يزال كثير من البشر يلجأون إلى الشعوذة، والخرافة، والرقى، والسحر.. لا يزال الإنسان يحتمي بالمجهول، خوفاً من الواقع ومن المجهول أيضاً.. إلا من أفعمت نفسه بإيمان مطلق. يحميه من التيه والتخبط في عوالم الحيرة والضياع. فالعقل وحده ليس بقادر على إقناع نفسه بنفسه.. بل إن العقل أحياناً يكون خصماً لنفسه في مسألة المصير.. لذا فإن كثيرين يرون أنه إذا كانت غاية الحياة ونهاية الإنسان كنهاية البهائم تماماً، فإن الحياة بهذا المعنى لا هدف لها ولا تستحق العيش، بل إن الانتحار والتخلص منها أجدى من هذا المصير الأسود. هذا بالنسبة للنفس وبواطنها، ومساربها.. أما مشاكل الجسد فإن الإنسان قد استطاع أن يحدد مكمن الألم أو الوجع.. لكنه لم يستطع بعد السيطرة على كل أمراضه، والوصول إلى العلاج الناجع لكل داء. هناك أمراض كثيرة، وخطيرة تقضي على ملايين البشر ولم يستطع الطب أن يجد العلاج الشافي لها رغماً عن الآلاف من مصانع الأدوية وشركاتها.. بل إن عمالقة الأطباء بكل وسائلهم الطبية يقفون في عجز وحيرة أمام خلية تموت لا يستطيعون انقاذها فضلاً عن احيائها..!! وربما يصيح عالم الطب رافعاً صوته بأن العلم قد تقدم.. فيرد عليه مريض الانفلونزا وأين العلاج؟!! وفي الإطار الخارجي عن الإنسان، أعني محيطه الجغرافي الكوني، فإنه رغماً عن اكتشافه الجديد والكثير من المجهول.. فإنه لا يزال يجهل الكثير، الكثير من الأشياء. بل يكتشف أنه لم يكتشف شيئاً. فكلما اتسعت حدقته وبعد مرمى بصره رأى أشياء جديدة مذهلة ومحيرة، حتى صار كوكبه الذي كان يعتقد أنه أكبر ما في الكون.. أصبح ذرة في ضمير الكون.. بل إنه تعرف على أشياء ولكنه يجهل ماهيتها.. فهو يعرف الجاذبية مثلاً، ولكنه لا يعرف ماهيتها، وتعرف على الكهرباء واستخدامها لكنه لا يعرف كينونتها.. وتعرف على الالكترون وهو لا يعرف كنهه.. ومنذ أن خلقه الله وهو يستعمل المادة وإلى هذه اللحظة لا يعرف كيف بدأت وكيف تكون، ولا كيف ستفنى وتنتهي..؟ وكل ما توصل إليه مجموعة من النظريات، والظنون، والتكهنات. حاول الإنسان أن يتعرف على الغيبيات التي يحسها بعقله العاطفي، وبمشاعره الروحية، وبتلك الحاسة الوجدانية التي تلوب بداخله والتي تحاول أن تخترق حواجز المادة وحجبها إلى عالم الغيب. لكنه - بدون إيمان عميق - ظل عاجزاً عن الاحتماء بيقين يملأ مكامن الأسئلة الجارحة في وجدانه، فلجأ إلى المكابرة وإلى التجاهل أحياناً. واستمر في جدلها الطويل العريض تجاه نفسه ومحيطه. ورغماً عن آلاف السنين فإن محاضرة الجدل لم تنته بعد، وسوف تستمر، ولا أظنها ستنتهي إلى الأبد!!