كان خبر تأسيس 20 مصنعاً جديداً للأسمنت (دفعة واحدة) في المملكة أمرا جيدا يوضح بجلاء حجم الفرص الاستثمارية الصناعية التي يولدها الاقتصاد الوطني. ولكن ثمة مسألة لابد من التعريج عليها فيما يخص نشوء الصناعات وتطورها وبناء الفرص الاستثمارية واستغلالها. تتمثل هذه المسألة ابتداء في ظاهرة افتقار اقتصادنا للابتكار والتجديد الاستثماري والميل الكبير لدى المستثمرين للتوجه نحو تقليد المجالات «شبه المضمونه» والمجربة من قبل الآخرين وتحاشي الدخول إلى المجالات الجديدة ذات الصبغة الابتكارية أو البعيدة عن المألوف. هناك أمثلة عديدة في الكثير من القطاعات الصناعية والخدمية تبين تعاظم الميل إلى التقليد حتى انه يمكن ملاحظة أن بعض المجالات الاستثمارية تنمو كنوع من «الطفرات» أو «الموجات» كما يحدث مع مطاعم المضغوط ومحلات الكوفي شوب ومصانع التعبئة والتغليف ودكاكين (كل شيء بريالين) الخ. كما أن الاجتهادات التي يحولها المستثمرون إلى استثمارات جديدة تكون عادة محدودة للغاية فتأتي أغلب المشاريع الجديدة وكأنها «صورة طبق الأصل»!! هذه الظاهرة موجودة في أغلب الاقتصاديات الناضجة والنامية على حد سواء ولكن ما يجعلها مختلفة لدينا أنها تخالف أصول الميزة النسبية ودورها في بناء الاقتصاد. بمعنى لو كان هذا التقليد المكثف يظهر في صناعات ومجالات ذات ارتباط بالميزة النسبية للدولة وهي في حالتنا النفط والغاز لما تذمر منه أحد ولكن أن يكون التقليد «شذر مذر» في قطاعات خدمية مشتتة ومجالات صناعية متواضعة فهنا نضع المجهر على البعد الاستراتيجي للتراخيص الجديدة ونلقى اللوم على الجزء الصناعي من وزارة التجارة والصناعة.. الترخيص لأكثر من عشرين مصنعاً جديداً للأسمنت أو خمسين مصنعاً جديداً للبلك أو البلاط والاستمرار في ضخ المصانع الجديدة في المجالات المتشبعة (و نكررها المتشبعة)!! خطأ استراتيجي لا يغتفر لأنه يسهم في ضخ الأموال والاستثمارات في مجالات قد لا يحتاجها الاقتصاد الوطني بنفس درجة حاجته للاستثمار في مجالات أخرى مثل الصناعات البتروكيماوية وما يشتق منها والصناعات النفطية وما يتولد عنها حتى لو كانت ذات أحجام محدودة (limited scales ) أو مجالات التصنيع الغذائي لأنها تخدم الأمن الغذائي على الأقل. هذا علاوة على أن المشروع الجديد التقليدي (لاحظ جديد ولكن لا جديد!!) يصبح مهددا بالخروج السريع وخسارة الاستثمارات لعدد من الأسباب لعل أهمها مقاومة الشركات القائمة في الصناعة وانخفاض هامش الربحية وتضاؤل جاذبية الاستثمار بسبب زيادة أعداد القادمين الجدد للصناعة. يبدو أن سياسة التراخيص في منحاها التقليدي تلقي بالضرر على جهات أخرى وتضغط على صناعات قائمة وناجحة كما يحصل مع صناعة الأسمنت وصناعات أخرى في حين يفترض لها أن ترى الميزة النسبية للبلد وتصب نحو تحقيق المصلحة الاقتصادية للمستثمرين الجدد والقدامى وتهتم أولا وقبل كل شيء ب «تجذير» الصناعة الوطنية في المجالات التي تعظم هذه الميزة، ولكن لا حياة لمن يرخص!! ولأن الكلام يجذب بعضه، فانه يمكن ملاحظة مشكلة كبرى في اقتصادنا تتمثل في ضعف التنسيق بين صناع الخطط والقرارات فالناس في وزارة التخطيط والاقتصاد على سبيل المثال قد لا يعرفون ماذا يدور في وزارة التجارة والصناعة التي هي بدورها لا تعرف هموم وشجون الناس في الهيئة العامة للاستثمار الذين قد يجهلون نوايا وخطط وزارة العمل.. ما يولد قرارات وبرامج شبه متناقضة ولا تسير وفق رؤية استراتيجية مبنية على الميزة النسبية للبلد. ونقول إن انبعاث رائحة «صراع الصلاحيات» بين العديد من الجهات الحكومية لا يثبت حقيقة المثال السابق فقط ولكن كذلك يدلل على غياب رؤية استراتيجية واضحة تقود هذه الجهات نحو المزيد من التنسيق والتكاتف والقرارات المتكاملة. ونعود إلى التقليد فنقول سيظهر 20 مصنعاً جديداً للأسمنت ولكن لا جديد!!