سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عبد المنعم عوّاد يوسف ل (ثقافة اليوم): الريادة الحقيقية للقصيدة الحرة في مصر .. والمبدعون الجدد يرفضون مفهوم «الأبوة»! في «فَضْفَضَة» على شاطئ النيل حول «نصف قرن من الشِّعر»
جاءت الجلسة التي جمعتني بالشاعر الكبير عبد المنعم عواد يوسف في مقر مكتب الرياض بالقاهرة ذات مذاق خاص، حيث حملت عبق الشعر، وسحر الكلمات والإيقاعات، فضلاً عن نشوة الاستمتاع بنسيم النيل العليل الذي دارت «الفضفضة» بالقرب من شاطئه. تطرقنا إلى مجالات وقضايا متعددة، حيث حكى عواد يوسف عن تجربته الشعرية مع قصيدة التفعيلة أو قصيدة الشعر الحر التي بدأت منذ أكثر من نصف قرن، وتناول إشكالية النزاع حول الريادة المصرية والعربية لهذا النوع الأدبي في ذلك الوقت، كما تحدث عن علاقته بالنقد وبالنقاد، وكشف عن أسباب رحيله من مصر لفترة طويلة، ثم عودته إليها، وأوضح علاقته بالأجيال الشعرية التي ظهرت في العقود الماضية. والشاعر عبد المنعم عواد هو واحد من رواد القصيدة الجديدة في مصر، وأحد أوائل الشعراء - مع سابقيه ورفقائه ومجايليه: عبد الرحمن الشرقاوي وعز الدين إسماعيل وصلاح عبد الصبور وكمال نشأت وفوزي العنتيل ومجاهد عبد المنعم مجاهد وحسن فتح الباب وكامل أيوب وكمال عمار وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد مهران السيد ومحمد الجيار وكيلاني حسن سند ونجيب سرور وفتحي سعيد وعبد القادر حميدة وملك عبد العزيز وأحمد كمال زكي - الذين ارتادوا هذا المسلك الوعر، وحاربوا من أجل فرض أصواتهم المتميزة وتجاربهم الإبداعية غير المألوفة على الساحة الأدبية في مصر والعالم العربي. ومما يُحسب لعواد يوسف أنه لم يكتفِ كشاعر بدوره الريادي في تأصيل شعر التفعيلة في بداياته، ولكنه دأب على الكتابة والإبداع حتى لحظتنا الراهنة، وما زالت دواوينه تصدر واحداً تلو الآخر، وصدرت مجموعة أشعاره عن الهيئة المصرية العامة للكتاب منذ فترة ليست بعيدة في سلسلة «الأعمال الكاملة»، كما أنه اتجه مؤخراً إلى النقد وأصدر كتاباً مهماً عنوانه «القصيدة الحديثة وتجلياتها عبر الأجيال». سألته بادئ ذي بدء عما يمثله صدور «الأعمال الشعرية الكاملة» بالنسبة له، فأجاب قائلاً: أفضل تسميتها ب «الأعمال الشعرية» فقط بدون وصفها بأنها «الكاملة»، لأن الأعمال الكاملة تعني أن الشاعر لن يكتب شعراً في المستقبل، ومن هنا فإن صدور ما يسمى ب«الأعمال الكاملة» للشاعر في حياته ربما يكون أمراً مضراً بالنسبة له، ومن الأفضل أن توصف بأنها «الأعمال الشعرية» فقط طالما أن الشاعر حي، أما إذا صدرت بعد رحيله فالأفضل أن تسمى بالأعمال الكاملة. وبالطبع فقد شعرت بسعادة كبيرة لصدور أعمالي الشعرية عن هيئة الكتاب في مصر، فجمع دواويني السابقة معاً في مجلد يتيح للقارئ وللباحث التعرف على تجربتي الشعرية منذ بدايتها في مطلع الخمسينيات وحتى اللحظة الراهنة، وهذا مفيد للغاية لرصد ملامح تطور الكتابة. وحول تجربته الشعرية مع قصيدة التفعيلة أو قصيدة الشعر الحر التي بدأت منذ أكثر من نصف قرن، وإشكالية النزاع حول الريادة المصرية والعربية لهذا النوع الأدبي في ذلك الوقت، يقول عبد المنعم عواد يوسف: أتصور أن الريادة الحقيقية لقصيدة الشعر الحديث أو الشعر الحر كانت في مصر وليست في العراق ولا أي بلد آخر، وذلك على أيدي خليل شيبوب ومحمود حسن إسماعيل وعلي أحمد باكثير، وذلك قبل أن يكتبها في العراق بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، مع عدم التقليل من دورهم التأصيلي الرائد بطبيعة الحال. وبالنسبة لي، فقد تعرفت على هذه القصيدة الجديدة وتفاعلت معها من خلال البياتي، وكنتُ قد بدأت بكتابة بعض القصائد العمودية في المرحلة الثانوية، ونشرت عدداً منها في الصحف والمجلات، ولعل النشر في مجلة «الرسالة» المرموقة كان اعترافاً بأنني خطوت خطوات جادة على درب الشعر الطويل. وأثناء دراستي الجامعية بدأت في التخلص من النزعة الرومانسية، وصرت أتحول إلى الواقعية وأرتبط بالمجتمع والبشر أكثر وأكثر، وفي عام 1952 نشرت قصيدتي «الكادحون» في مجلة «الثقافة» التي كان يرأس تحريرها محمد فريد أبو حديد، وهذه القصيدة ثاني قصيدة من الشعر الحديث (الحر) تنشر لشاعر مصري في هذه المجلة، بينما كانت الأولى «العملاق» لعز الدين اسماعيل في عام 1952 أيضاً، والثالثة «أبي» لصلاح عبد الصبور في يناير 1953. وقبلنا نحن الثلاثة كانت هناك قصيدة مصرية شهيرة من هذا اللون الجديد كتبها ونشرها (في عام 1951 على ما أتذكر) الشاعر عبد الرحمن الشرقاوي، وهي قصيدة «من أب مصري إلى الرئيس ترومان» التي ذاع صيتها على نحو ملحوظ. وبعد هذه المرحلة، ظهر شعراء آخرون واصلوا تأسيس حركة الشعر الحديث في مصر، ومنهم: أحمد عبد المعطي حجازي، حسن فتح الباب، كمال نشأت، فوزي العنتيل، مجاهد عبد المنعم مجاهد، فتحي سعيد، ملك عبد العزيز، وآخرون. وبسؤاله عن قصيدته الشهيرة «كما يموت الناس مات» التي كتبها في عام 1953، وأحدثت صدىً كبيراً في ذلك الوقت والتي يقول فيها «»وكما يموت الناس ماتْ/ لا .. لم تنح أرض عليه، ولا تهاوت شامخاتْ /لا .. لم تشيعه الطيور إلى القبور .. مولولاتْ»..، بسؤاله عن دوافع هذه الانتقادات التي وجهها في قصيدته إلى الواقع وربما السلطة في وقت كانت مصر فيه مزدانة بثمار ثورة يوليو 1952، أجاب عبد المنعم عواد قائلاً: كانت منجزات الثورة ضخمة بلا شك، لكن كانت هناك سلبيات، وكانت هناك تجاوزات ومعاناة للبشر. وقد شكت لي إحدى الفلاحات آنذاك من أن أحد العسكر (رمز السلطة) قد أخذ منها زبداً جهزته لتبيعه بدون أن يعطيها أي مقابل، وكانت هناك حالات كثيرة مشابهة، فأردت أن أصور ظلم الواقع للفلاح المصري والإنسان البسيط عموماً. وعن أسباب رحيله من مصر لفترة طويلة، ثم عودته إليها، يقول الشاعر عبد المنعم عواد: كانت نكسة 1967 ضربة موجعة للمصريين وللشعوب العربية، وأحس المثقفون بانكسار مضاعف، ومن هنا فكرت - مثل كثيرين - في الابتعاد ولو لبعض الوقت كمحاولة لإعادة التوازن لذاتي بعد الإحباط الكبير وتمخض المشروع القومي عن لا شيء، وبالفعل سافرت إلى دولة الإمارات والسعودية وبعض دول الخليج، ولم أنقطع عن فعاليات الحياة الثقافية في مصر، وأصدرت كثيراً من دواويني في مصر أثناء إقامتي بالخارج. ثم كان قرار العودة بعد أن أحسست أنني يجب أن أتواصل بشكل مباشر مع الأجيال الشعرية الجديدة في مصر. وبالفعل تربطني بالعديد من أبناء الأجيال الشعرية الجديدة علاقات متميزة، وأتصور أن الشاعر يجب أن يكون متصالحاً مع ذاته، فيكتب كما يشاء، ويجب أيضاً أن يكون متصالحاً مع الآخرين بتياراتهم وتجاربهم المختلفة. وبالنسبة لي، فأنا لست ضد أي تيار أو نمط إبداعي، وإن لم أكتبه، فمثلاً أنا لا أكتب قصيدة النثر، لكنني لا أنفيها أو ألغيها، وأقرأ معظم الدواوين النثرية الجيدة التي تصدر للشعراء الجدد. وربما كانت هذه النظرة مثالية أكثر من اللازم في وقت صار فيه البعض يحاولون تحقيق ذواتهم وإثبات أصواتهم عن طريق نفي الآخرين، وصار فيه الكثيرون من الشعراء والمبدعين الشبان يرفضون مفهوم «الأبوة» على كافة المستويات! وحول أسباب اتجاهه إلى كتابة النقد في الفترة الأخيرة، شأنه شأن مبدعين كثيرين، وعما إذا كان ذلك يعني أن ساحة النقد تعاني من غياب أو تقاعس النقاد الأكاديميين، يقول عبد المنعم عواد يوسف: لا أريد وصف النقاد الأكاديميين بالتقاعس، لكن ربما تكون المنابر المتاحة أمامهم غير كافية لملاحقة كافة الإبداعات الجادة والجيدة، أو ربما يكون النقاد الأكاديميون قليلين مقارنة بالمبدعين. وعلى الرغم من ذلك، فإن نقاداً من أمثال د.صلاح فضل ود.محمد عبد المطلب، وقبلهما د.علي الراعي، وغيرهم، قد بذلواً جهوداً كبيرة في تعريف القارئ المصري والعربي بالأعمال القصصية والروائية والشعرية المتميزة، وتحليلها وإضاءتها، سواء في المجلات الثقافية المتخصصة أو الكتب الجادة أو الصحف اليومية واسعة الانتشار، وهذا يحتسب لهم بكل تأكيد. ولا بأس أن يسير مبدعون على درب النقد، وهذا شأن كثيرين في دول العالم المختلفة قديماً وحديثاً، وأحاول أن أقوم بهذا الدور من خلال تناولي لإبداعات الأجيال الشعرية التالية لي، وهكذا يفعل آخرون من أمثال فاروق شوشة وكمال نشأت وحسن فتح الباب وغيرهم.