شعرت وأنا في الكوخ الذي يحمل اسم شجر التنوب، أن أنفاس الكاتبات الأجنبيات اللاتي سكنّ قبلي تحيط بي أرواحهن المطلية بلحظات الانخطاف والتي تريد أن تعبر فوراً عن شيء ما يدعى السعادة، أو السرور، أو عن أمر لم ينجز بعد، حتى أذا ما وصلت ذلك الكوخ الذي يقع وسط غابة حقيقية وبجواري على بعد بضعة أمتار كنّ، وأنا معهن نشكل ست كاتبات عربيات سوف يعشن فترة شهر في جزيرة أميركية. الشاعرة شومان هاردي ابتسمت برقة قائلة : لكنني كردية فكيف سيستقيم عنوان حلقتك الأولى بالكتابة عنّا - نحن -.لم يستقم المعنى، ولماذا عليه أن يستقيم في تلك الجزيرة التي تبعد عن مدينة سياتل حوالي الساعتين، ربما أكثر. ولا واحدة منّا، نحن الكاتبات، وهن على التوالي، فاديا فقير روائية وباحثة أردنية تعيش في المملكة المتحدة. رجاء عالم روائية وكاتبة من المملكة العربية السعودية. سهير حمّاد شاعرة فلسطينية تعيش في نيويورك. ابتهال سالم روائية ومترجمة من جمهورية مصر العربية. شومان هاردي، شاعرة من كردستان العراق وتعيش في المملكة المتحدة. ثم، أنا. لم أثق بالتوقيت الأمريكي الذي ينقص عن التوقيت الأوروبي ما يقارب العشر ساعات. تركت ساعتي على توقيتها الأوروبي واستعنت على زماني بالساعة الموجودة على شكل راديو. هنا، لا أنتظر أحداً. علينا البقاء في هذه الإقامة التي أول ما وصلتها استقبلتني صورة بومة هي رمزها الحكيم، بالمناسبة، رجاء وشادية عالم سكنتا في الكوخ الذي يحمل ذات الاسم. عنت على رأسي السيدة غادة السمان التي استلهمت وجه ذلك الطير عنواناً لدار نشرها، هكذا ضد امتلاء الرأس العربي بالتفاؤل الغبي. كانت الطيور هي التي تحكم على الأمور، لا نحن، هي التي قررت أن تبوح لنا كل يوم صباحا، ما هي أميركا، أو من هي أميركا. أربعة أسابيع في جزيرة، في كوخ، في غابة، في الطلب منك في الدعوة التي استغرق الإعداد لها ما بين كتابنا وكتابهم ما يقارب العام وبدون مبالغات. أن تكوني بمفردك، تعيشين في وقتهم الأميركي ولا تعثرين على أحد يكلمك الإ إذا شئت أنت ذلك. على يميني تسكن ابتهال سالم، ابعد قليلا رجاء وشادية عالم والباقيات، عقدن فيما بيننا أواصر الجمال الذي لا يتصور. قالوا في الدعوة لمشروع «هيجبروك»، هذا هو اسمه، وسوف نتحدث عنه فيما بعد. قالوا لنا، يتوجب عليك البقاء وحيدة لكي تكتبي، يتوجب أن تعرفي مغزى أن تكوني وحيدة وتصمتي، أي، هو نداء للوحدة والعزلة، للاعتزال. حين قرأت ذلك في حيثيات الدعوة كتبت لهم ؛ لكنني وحيدة منذ ربع قرن ولا أحتاج إلى مكبرات صوت لكي أستعيد وحدتي. رجاء عالم قالت، كلا، أريد أن أكون داخل هذه العزلة، أنا بحاجة إليها. إنني أقاتل لكي أنال شيئا من الوحدة في مدينة جدة. حسنا، علينا ألا نبالغ في الحفاوة بالعزلة، فالطيور في أشكالها هنا لا تقع على رؤوسنا وانما تضرب أجنحتها زجاج أكواخنا فنسمع دمدمة الغزالة الفاتنة وهي تتابع عملها ولا تصغي إلى نصائحنا ومراسلاتنا وليس لديها أي هدف إبداعي أو تربوي، ولا تناور لكي تظل غزالة. شعرت في أحد الأيام، أنني حضرت إلى هذا المكان النموذجي ربما للكتابة، ولكن ليس للكتابة وحدها، أنني بوضعيتي تلك أزعج وأقلق سلامة وأمن وذوق تلك الطيور والحيوانات : الأرانب، الغزلان، القطط، وقارض، بالعراقي ندعوه «أبو العرس » ، له شبه بالأرنب الا أن ذيله شديد الكثافة. شعرت أن جميع تلك الحيوانات الاليفة تعطي دروساً تثقيفية في اللاأمركة، وأن أصوات تلك الطيور لا يجوز لنا تسجيل مغازلاتها مع شركائها فذلك أمر غير وطني، في رأيي على الأقل. الغابة بالطبع لا تعرف الخير أو الشر وهي لا تميل الا لصيرورتها كما هي جميع الغابات في العالم. فمن أين سأبدأ بالكتابة عن تلك الحرية، أعني بها مساحات الحرية التي يصعب إيجازها أو تبويبها أو إنفاقها بشهر واحد. اراض، حين كنا ننتقل بالسيارة من الجزيرة لأخذ العبّارة في طريقنا إلى مدينة سياتل للاشتراك بإحدى الفعاليات والأنشطة التي حضرنا من اجلها ككاتبات عربيات، كنت أظن أن هذه الأراضي سوف لن تنتهي إلى الأبد، إنها أراض لا تقبل الا أن تكون مستحيلة وتستطيع أن تشعرك أن كونية أمريكا كجغرافيا وسماوات، وبدون تاريخ، هي - ربما - التي جعلتهم يتوقون لإدارة العالم، إدارة خالصة. إنه كونهم - هم - وهم أصحاب الملك والملكية، يبذرون الضخامة والإسراف. هم أصحاب الهوس بالسفه والاستهلاك والتسويق فأتصور أنهم يجرون تعديلات دائمة على تلك الصور لكي يكونوا أو يظلوا يشبهون كل شيء ضخم، ناطح وينطح. شراهة الاراضي الفارغة، تقابلها شراهة كيف يتم الاستحواذ على أراضي الغير، بالإيجار حتى أو ببناء الشركات عابرة القارات، أو بذلك الذي يسمى فعلا بالاقتصاد الحر، اقتصاد الاستقلال والمبادرات الشخصية التي تصل في بعض الأحيان حدود الأساطير وذلك حديث آخر. البشر الذي قابلني منذ أول وصولي مطار سياتل، أعني به البوليس، كان طيبا وودوداً، عكس ما حدث معي في رحلتي الأولى إلى نيويورك عام 2001 المعذبة جدا. بوليس هذا العام، وكأنه وجه نداء إلى عراقيتي، يقول، اذا ما صادفتم عراقية من خلف واجهة زجاجية فدعوها تمر من بين الزجاج والاحتلال. لا تكسروه عليها ولكن ادفعوها إلى النقد غير اللئيم وهذا ما حصل بالفعل. سياتل في الأصل كأنها كرست جل وقتها لاستقبالنا، قالت إحدى عضوات المشروع لرجاء عالم : إنكم غيرتم حياتنا. هذا صحيح، إنهم غيروا حياتنا ايضا. كانت القاعات مكتظة إلى آخرها وكانت كتبنا تباع بشكل كبير. بالطبع لم أثق بأذني كثيرا وأنا أسمع هذا فهي في طريقها إلى الطرش البطيء. لكنني قرأت ذلك حين كتبه السيد :RICK Simonson مسؤول أشهر وأعرق مكتبة في سياتل وهو يدلي بتصريح أنه سجل أعلى المبيعات ولجميع الكاتبات وبطريقة من نجاحها الشديد تبدو لي مبهمة أو ملتبسة أو لا تصدق. ترى ماذا اجتذب القراء إلينا، نحن الست كاتبات وبدون استثناء ؟ ربما منجم بترول في كتاب رجاء عالم مثلا ؟ لكن هذا غير صحيح فقد قدمت هذه الكاتبة المتميزة ثقافة بلدها وعراقة مكيتها، بسلوكها الرصين والصوت المنخفض والدفء البشري، والاناقة الراقية. رجاء عالم قدمت بئرا من الإبداع، كما قدمت فاديا فقير ثروتها اللغوية وسلوكها الإنساني وإبداعها المكتوب بالانكليزية رأساً فنالت الإعجاب. كما النجمة سهير حماد وهي تلقي قصائدها النارية والحارقة عن فلسطين، كما سجلت الكاتبة المصرية ابتهال سالم سخاء واريحية قل نظيرها بين كتاب العالم العربي والغربي وهي تجلب معها كتب زميلاتها وصديقاتها من الروائيات المصريات كسحر توفيق وصفاء عبدالمنعم وتتحدث عنهن قبل الحديث عن نفسها وتقدمهن للمكتبات في سياتل ثم تهجس بأمل ترجمتهن إلى اللغة الانكليزية . لقد أثار هذا الموقف درجة من الرقي لأخلاق الفنانة فنوهتُ بذلك أمام حشد من الجمهور لأنني تعلمت منها امراً لا علاقة له بالإيثار أو الغيرية، هو شيء آخر لم أعثر له على نعت. شومان هاردي قدمت صوتا كرديا بلغة انكليزية شديدة البساطة، تلك البساطة الراقية العميقة ذات النبرة التي لم أشم فيها أي نوع من التشفي أو الضغينة. كانت تلقي قصيدتها وهي تتحدث عن إبادة قرية حلبجة وكأنها تغرد وهذه من المرات القليلة التي أقرأ فيها شعراً عن الموت لا يدعو للانتقام وهذا امتياز كبير للشعر والشاعرة.