حققت أسهم المُنشدين خلال الفترة الماضية صعوداً كبيراً واستطاع المُنشدون مزاحمة نجوم الشعر والفن وجذب اهتمام الناس ووسائل الإعلام على حد سواء، وأعتقد أن حدوث هذا التصاعد كان نتيجة حتمية لعدة عوامل منها: تشبُع الناس من رتابة الإلقاء الذي ظل مُهيمناً على مدى عقود من الزمن، و تقديم شركات الإنتاج للألبومات الإنشادية على أساس أنها بديل "شرعي" للأغاني يُحقق المُتعة والتطريب ويمنع –بحسب رؤيتهم وتأييد شريحة واسعة من المتلقين- من تحقق الإثم والتعذيب..! يُضاف إلى هذين العاملين العامل الأهم وهو اجتهاد المنشدين من ذوي الأصوات الجميلة في انتقاء القصائد الجيدة وإنشادها بألحان مبتكرة تجذب المستمع وتلامس مشاعره، وجميع هذه العوامل مكّنتهم من الاستقلال بإصدارات صوتية خاصة حققت مبيعات تجاوزت عشرات الآلاف من النسخ للإصدار الواحد ودعمت حضورهم في المناسبات ووسائل الإعلام، ومؤخراً تابعنا مشهداً واضحاً من المشاهد التي تدل دلالة مؤكدة على بلوغ المنشدين مرحلة النجومية الإعلامية وهي إقامة شركات الإنتاج حفلات لتدشين الإصدارات الصوتية لهم وهي حفلات تحظى بحضور كبير وتغطية إعلامية واسعة، ورغم أن تسارع إصدارات الشيلات والاحتفاء بها وبأصحابها أمر يبعث على الابتهاج لأن حضورها القوي يعني حضوراً قوياً للقصيدة الشعبية إلا أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعض نقاط الخلل التي أظن أن المنشدين أنفسهم يستشعرون خطورتها ويسعون جاهدين لتصحيحها وتجاوزها. محمد عبده من تابع قبل أيام حفل تدشين إصدارات المبدعين: فهد مطر وخالد المري (العذب) وهادي المري يُعجب بمدى وعيهم بمسألة ضرورة التحديث والتنويع في الألحان والكلمات المُختارة، وقد أكّد فهد مطر وهو أحد أكثر الأصوات الإنشادية حضوراً وتميزاً على مسألة "التنويع في الكلمة واللحن والموضوع" للوصول إلى جميع الأذواق، وهذا كلامٌ رائع أود الانطلاق منه في حديثي مركزاً على فهد كنموذج وعلى مدى التزامه بمسألة التنويع والتجديد من خلال إصداره الإنشادي الأخير، فقد حرص -كما في إصداراته السابقة- على تنوع الأسماء والأغراض الشعرية وهذا أمر جيد يُحسب له بكل تأكيد، لكن ثمة نقاطاً مُعينة في هذا الإصدار أعتقد أنها نقاط سلبية تُحسب عليه وتتعارض بشكل واضح مع مسألة التجديد والتنوع التي أكد عليها. طلال مداح فقد قام في هذا الإصدار (شيلات فهد مطر 3) بإعادة إنشاد أغان معروفة لفنانين كبار وهي: (يا سحايب) و(يا شايل الظبي) لمحمد عبده و(قولوا للغالي) لطلال مداح بنفس ألحانها القديمة وهو الأمر الذي سبق وأن قام به في ألبومه السابق حين أنشد أغنيتي: (من بادي الوقت) لمحمد عبده أيضاً و(يا غايبٍ عني) لخالد عبدالرحمن، وهذا الأمر حتى وإن أوجد له المُنشد نفسه أو غيره عدداً من المبررات إلا أنه يوحي بوجود عجز عن إيجاد جديد يُغني عن الاستعانة بقديم الفنانين، والسؤال المهم الذي أود طرحه: ما هي الإضافة التي قدمها فهد مطر حين أعاد نفس الكلمات بنفس الألحان الأصلية؟ مع العلم بأنه يكتفي بنزع عُنصر (الموسيقى) وهو عُنصر إضافة دون أن يستطيع توفير عنصر تعويضي بديل يستحق أن يُعاد الاستماع لتلك القصائد من أجله، ولا يخفى على الجميع أيضاً أن تلك القصائد غُنيت بأصوات فنانين يمتلكون أجمل وأعذب الأصوات وحققت نجاحات كبيرة مما يجعل من عملية تكرار إنشادها بذات الطريقة –من وجهة نظري-أمراً لا يضيف لها بقدر ما يُنقص من جمالياتها. خالد عبدالرحمن يقع فهد مطر في هذا الإصدار في مأزق التكرار بشكل آخر أيضاً حين يقوم بإعادة إنشاد شيلات زملائه المنشدين دون أن يُضيف إليها أي لمسات تحديثية، فقصيدة مثل قصيدة الشاعر الكبير عبدالله بن عون: (يا مل قلبٍ يسج وفيه دولاجه) فضلاً عن كونها من أكثر القصائد الشعبية شهرة وتداولاً سبق وأن قام أكثر من مُنشد بتأديتها أبرزهم المُنشد المعروف مهنا العتيبي الذي أنشدها قبل أعوام ولا أعتقد أن هناك أي قيمة تُذكر في معاودة طرحها اليوم دون أي إضافة أو تحديث، كذلك لا أجد مُبرراً مُقنعاً لإعادة إنشاد قصيدة (وين المخاوي) التي سبق وأن أنشدها سمير البشيري بنفس اللحن الذي طرحها به فهد مطر في هذا الألبوم، وأجزم كذلك أن من يستمع لشيلة (مطلّه) التي تضمنها الألبوم سيستحضر بكل سهوله ويُسر أغنية من الأغاني القديمة المعروفة وهي (في غربتي) لخالد عبد الرحمن لأن الشيلة استعارت أو كرّرت لحن الأغنية ودون أي تجديد أو إضافة أيضاً ..! مهنا العتيبي أتمنى أن لا يُفهم حديثي السابق على أنه اعتراض مطلق على مسألة تكرار بعض الألحان أو القصائد من قبل المُنشد، فالوقوع في التكرارأمر يُعاني منه المنشدون والشعراء والكُتاب وكل أصحاب المواهب الإبداعية، لكن الذي أقصد إليه وأطالب به هو أن يكون المُنشد حريصاً قدر الإمكان على البحث عن الجديد لاسيما في إصداراته الرسمية أو أن يقوم بأضعف الإيمان وهو وضع لمساته الخاصة على العمل الذي يقوم بإعادة طرحه، إذ لا شك في أن التجديد شرط مهم لنجاح أي عمل فني أو أدبي ومطلب ضروري للجمهور الذي قد يُفسر عملية طرح إصدار جديد بمجموعة من الأعمال القديمة على أنه تحايل وغش له لأنه لم يدفع إلا ليستمع ويستمتع بالجديد؛ وأعتقد أن فهد مطر وإن وقع في مأزق التكرار إلا أنه استطاع تضمين ألبومه شيلات رائعة وجديرة بالإشادة والاستماع من بينها:(يا لاقية خير) و(يا راعي الجيب) و(يا رب سامحني )وغيرها، ونقدي للأعمال المذكورة لا ينفي إعجابي بالجيد من أعماله وبنشاطه وحرصه على تقديم الأجمل. سمير البشيري ولو نظرنا لإنتاج أصحاب الشيلات عموماً لوجدنا بأن كثيراً منهم يقعون باستمرار في مأزق التكرار واجترار أعمال الآخرين بأساليب ودوافع مختلفة، وإذا ما انطلقنا من الأساليب نجد أن أبرزها قيام المُنشد بسرقة ألحان الأغاني المعروفة وغير المعروفة للفنانين دون أي أمانة أو حرص على الإشارة إلى مبدع اللحن الأصلي أو إيهام المتلقي بأنها من ألحانه أو من الفولكلور، وينبغي التنبيه فيما يتعلق بسياق حديثنا عن المُنشدين والفنانين إلى أن الإنشاد وإن قُدِم على أنه مشروع بديل شرعي للأغاني -كما ذكرت في المقدمة- إلا أن الجميع يُلاحظ حركة النكوص أو الارتداد الكبيرة الحاصلة هذه الأيام مُتمثلةً في لجوء العديد من المنشدين إلى إدخال الآلات الموسيقية والمؤثرات الصوتية القوية بشكل مُبالغ فيه وهو الأمر الذي وإن تحرجنا من تفسيره بالإفلاس فلا يُمكن أن نتردد في تفسيره على أنه عدم ثقة من المُنشد في طاقة صوته وعجز عن إيجاد ألحان جديدة. من أبرز المخاطر التي سيكون لها تأثير سلبي على فن الإنشاد إضافة إلى ما سبق الانجراف الكبير نحو تأدية قصائد هزيلة تحت إغراء الكسب وطمعاً في زيادة الإيرادات المالية، فبعض المُنشدين من اصاحب الاصوت المميزه أصبحوا على استعداد تام لإنشاد أي قصيدة تُعرض عليهم سواء أكانت في (امرأة) أو (ناقة) أو (سيارة) مُقابل توفير المبالغ التي يطلبونها، لذلك فهم يُسابقون الزمن في مُحاولة لإنجاز "شيلة" لكل قصيدة تُقدم إليهم مُرفقة بشيك كثير الأصفار، وهذا الأمر يضطرهم اضطراراً للرضوخ لذوق ورغبة صاحب القصيدة أو يدفعهم لإخراجها بألحان مسلوقة أو مسروقة أو تأديتها بشكل متواضع في أحسن الأحوال ...!