وصلت إلى كوريا قادماً من اليابان في مطلع ديسمبر الماضي.. وفور خروجي من مطار سيئول لاحظت اختفاء الغطاء النباتي وانتشار بقع الجليد ونزول درجة الحرارة إلى مادون الصفر.. غير أن سائق التاكسي كان لطيفاً ومنفتحاً مثل معظم الكوريين وقدم لي برتقالة وكوب قهوة وشغلني بحديثه عن كل هذا.. وفور وصولي للفندق أجريت عدة اتصالات مهمة؛ كان أولها مع شركة سياحية لزيارة الحدود الفاصلة بين كوريا الجنوبية مع كوريا الشمالية (حيث توجد أكبر منطقة حدودية ملغمة في العالم).. والاتصال الثاني بملحقنا الثقافي في سيئول الرجل الجميل الدكتور تركي العيار.. والثالث بطلاب مبتعثين وأصدقاء كوريين تعرفت عليهم عن طريق النت قبل وصولي لكوريا نفسها.. وهكذا شكلت بسرعة مجموعة أصدقاء عوضتني عن خطأ زيارة كوريا في هذا الوقت من العام وحولتها إلى واحدة من أجمل الرحلات التي قمت بها في عام 2012!! ... وحديثي عن كوريا سيركز بوجه خاص ليس على أوجه التنمية المتعددة فيها بل عن مفارقة التحول المذهلة التي نقلتها خلال جيلين من مجتمع زراعي متخلف إلى دولة صناعية متقدمة (وقد لا ينافسها في سرعة التحول هذه غير بقية النمور الآسيوية).. فحتى عقد الستينات كانت كوريا مجتمعاً فقيراً لا يتجاوز دخل الفرد فيه 1100 دولار في العام ومايزال كبار السن يتذكرون تلك الأيام ولكنها تحولت اليوم إلى خامس مصدر للسيارات وأول صانع للناقلات وثالث مُصدر للإلكترونيات.. وفي حين عانى شعبها من الجوع والفاقة زمن الحرب الأهلية (التي قضت على مليون شاب) ارتفع فيها متوسط دخل الفرد بسرعة حتى تجاوز اليوم 31000 دولار (ويتوقع استمراره في الارتفاع حتى يتجاوز 90 ألفا في عام 2050)!! والعجيب أن نهضة كوريا الجنوبية بدأت عام 1961 اثر انقلاب عسكري تولى على إثره الجنرال بارك شونج حكم البلاد بقبضة من حديد. وحين اغتيل عام 1979 كانت كوريا قد قطعت شوطا كبيرا فيما دعاه خبراء التنمية (معجزة اقتصادية على نهر الهان كانج).. ورغم أن كوريا عانت من الاضطرابات السياسية والعمالية بعد اغتيال شونج إلا أنها استمرت في مسيرة التنمية وترسيخ الديموقراطية ومن المفارقات أن ابنته سويري هي التي فازت الشهر الماضي برئاسة الجمهورية إثر انتخابات شعبية نزيهة!! وكنت قد دخلت مع صديقة كورية متحفاً في سيئول يستعرض صورا من الماضي تبرع بها عامة الناس.. لم تكن الصور قديمة جدا (حيث كان بعضها ملوناً) ولكنها تظهر حال البؤس والتخلف الذي كانت تعيشه المدينة حتى عقد السبعينات.. فقد رأيت مثلاً صوراً لأناس يعيشون حول نهر الهان كانج في صناديق من خشب وصفيح تحولت اليوم إلى ناطحات سحاب مغطاة بالرخام والزجاج.. وبعد أن كان جدول الماء في وسط المدينة مجرد مجرى ملوث يعج بالبعوض والذباب تحول اليوم إلى تحفة فنية ومعلم سياحي (يمكنك رؤيته في صور جوجل بإدخال هذه الكلمة الغريبة (Cheonggyecheon.. ... أما الأجمل من هذا كله، فهو أن سرعة التحول المذهلة في كوريا الجنوبية شملت أيضا متوسط دخل الفرد (الذي تضاعف أكثر من 30 مرة منذ الستينات) والرعاية الصحية (التي رفعت متوسط العمر إلى مصاف فرنساواليابان) ومجالات التعليم (بحيث أصبح أطفال كوريا يسيطرون على المراكز المتقدمة عالمياً في اختبارات العلوم والرياضيات، ناهيك عن تعليمها الجامعي الذي يرتبط بعلاقة بحث وثيقة مع الشركات الصناعية الكبرى)!! ... وبمناسبة الحديث عن العلوم والرياضيات؛ إن أردت التنبؤ بالمستقبل العلمي لأي مجتمع عالمي فانظر الى مستوى أطفاله في هاتين المادتين بالذات...