خمسة عقود وأكثر عاشها مجتمعنا بحلاوة أيامها وتقلب أحداثها وظروفها؛ تحكيها لنا ذكريات الشيوخ ومجالس كبار السن.. كيف بدت ملامح التغيّر الاجتماعي في بلادنا؟، وكيف تعايش الأجداد والآباء مع وسائل النقل والتواصل، بل كيف تعاملوا مع المدينة الحديثة بمبانيها وزخارفها ورغد عيشها الاقتصادي - الذي واكب طفرة النفط وحقول الزيت - التي شهدت مستقر إحدى أكبر شركات التنقيب عن الزيت، ونقلت لمجتمعنا صورة من صور المدينة الحديثة التي تجاوزها مجتمعنا الآن بعد خمس عقود هي الآن من حديث الماضي السعيد. السبعينيات: «طفارى» و«قراوى» تحققت أحلامهم برؤية الطائرة والقطار والهاتف وإيداع فلوسهم في البنك السبعينيات الهجرية تبدو حياة الآباء والأجداد ممن أدركوا السبعينيات الهجرية من القرن المنصرم "الخمسينات الميلادية" أقل غموضاً عما كان عليه من سبقهم في العقود السالفة، وليس ذلك لشيء سوى أن الخمسينيات الميلادية شهدت انتشاراً أكبر لتقنيات الاتصال والتواصل؛ إذ عرف عن أبناء ذلك الجيل أنه أدرك الإرسال البرقي والاتصال اللاسلكي ولو في بعض الدوائر الحكومية ومنازل كبار المسؤولين والأمراء؛ ناهيك عن بزوغ تقنية الهاتف الثابت والبريد المنقول بسيارات اللوري أو الطائرات التي عرف الناس من خلالها السفر في الجو، وهم الذين كانوا يسمعون به ولم يصدقوه، بل إن بعضهم كان يمني النفس بمشاهدة الطائرة حتى لو كانت رابضة في المطار، كان الناس حينها يتعاملون مع المستجدات التقنية والاتصالية بذهول وتعجب لا يجاريه إلاّ تعجب أجدادهم مما رافق الباشا من تقنيات حربية حملته على بلادنا قبل قرنٍ ونصف من ذلك الزمان. كان الناس في الخمسينيات الميلادية على بساطة عيشهم وضعف مواردهم وكثرة تنقلهم يستشرفون نهضةً اقتصادية واجتماعية، ولعلهم أدركوا جزءاً منها في نهاية ذلك العقد، حيث توسعت الطرق المعبدة، وبنيت الوزارات والمقار الحكومية، وكثرت السيارات في الطرق والمدن وتعايش الناس مع البناء المسلح وتوسعت الأنشطة الإعلامية والرياضية، وزادت الهجرة إلى المدن الكبيرة، وشعر الناس حينها بباكورة النهضة المدنية والاجتماعية، وتابعوا عن كثب سلسلة التنظيمات الإدارية في القطاعين الحكومي والخاص، بل إنهم تعايشوا مع نظم الاقتصاد الحديث، وشاهدوا بأم أعينهم القطار الجديد وهو يقطع ويشق عباب الدهناء من الرياض إلى الدمام، كما تعاملوا مع البنوك التجارية و"الماركات" المستوردة، وفتحوا الدكاكين والمحال التجارية وطلبوا وكالات السلع المستوردة، بل وتابع الأهالي حينها المنجزات الحكومية وأخبار "الشيوخ" عبر وسائل الإعلام، كما "توسد" كبار السن أجهزة المذياع ورضيت نساء ذلك الزمان بالولادة في مستشفى "التوليد"؛ في الوقت الذي غادرت البلاد طلائع البعثات الدراسية إلى مصر وبعض البلاد الأوروبية. الثمانينيات: «طفرة» وغزل في «خريص» واستعراض سيارات في «الوزير» و«العصّارات».. و«الزكرت» يغنون الثمانينيات الهجرية ما أن بدأ عصر الثمانينيات الهجرية "الستينات الميلادية" إلاّ وبدت - لا سيما في المدن الكبرى - بحبوحة العيش، وظهرت معالم التمدن والتحضر جلية؛ فبرزت المباني والعمائر وما يسمونه آنذاك "ناطحات السحاب" في كل من مكةالمكرمةوالمدينةالمنورةوالرياضوجدة، وعرف الناس حينها أخبار العالم ومن حولهم من الدول العربية، لا سيما بعد الانتشار الواسع لوسائل الإعلام وظهور جيل جديد من الدارسين والمتعلمين، كما كان حال من يسمونهم "مثقفي أرامكو" الذين درسوا وعملوا في شركة الزيت في المنطقة الشرقية، وحينها كان الزخم القومي والدعاية الاشتراكية في أوج انتشارها في العالم العربي، كما كان لمقاهي حي البطحاء وشارع الغرابي حراك ثقافي إعلامي ملحوظ، كما هو حال مقاهي شارع خريص الذي تستقبل كثبانه الرملية الأسر والأهالي في متنفسٍ يكاد يكون الوحيد في سماء مدينة الرياض آنذاك، ولا عجب حينها من ظهور بعض التجاوزات والمضايقات من بعض شباب ذلك الزمان الذين عبر شاعرهم المستهام عن مكنون العشق والغرام؛ حين وصف ما شاهدته عينه على أحد تلك "الطعوس" فرجع إلى أهله يقول: ياهلي قلبي تحطم من هوى الضبي الملثم لابس الفستان الأدهم شب في قلبي حريقه في طريق خريص شفته صابني ساعه صدفته ليت والله ماعرفته ياهلي كيف الطريقه ليرد عليه ظبيه الفتان قائلاً: قال اخشى هرج عاذل يافتى خليك عاقل لا تجيب لنا المشاكل خل كل في طريقه ويبدو أن صبيان ذلك الزمان وجدوا في أبيات "شارع خريص" أهزوجة ينقلونها ويتغنون بها في شوارع وأزقة الرياض الحديثة؛ ليس ذلك إعجاباً بهذه المحاورة الشعرية بقدر ما هي عنترية شباب الثمانينيات الهجرية، و"فشحزة" ربيع العمر؛ الذي كان دافعاً لقطع المسافة ذاتها في المساء لمشاهدة وميض الشاشة السحرية على مقاهي هذه الشارع الذي استقبلت فيه المقاهي صناديق التلفاز منذ عام 1385ه، كما استقبلت أرتالاً من الفضوليين والمارة من الركاب والمسافرين، وما كان يضاهي هذه الحراك الشبابي حينذاك، إلا أصوات المنبهات في شارعي الوزير والعصارات، لا سيما في ليلة الخميس التي يتحول فيها هذا الشارع أو ذاك إلى "كرنفال" شبابي تتبختر فيه سيارات الدوج والكاديلاك والمرسيدس على أطلالة "سوق الوزير"، وقصور شارع العصارات وبالطبع لن تجد حينها مكاناً لسيارات "الفليكس واجن" التي تنتشر في حي العود والصالحية، كما لا تشاهد أثراً "للجمس الحمر" والدوج المصفح التي يعبّر عنها طريق خريص و كثبان طريق"ديراب". أسواق جيل الألفية تجمع التسوق والترفيه في أجواء مكيفة وخدمات متنوعة كانت الثمانينيات الهجرية تزهو بأسواق "مقيبرة" و"حلة القصمان" و"سويقة"، كما تتبختر السيارات الأمريكية والألمانية في شوارع حي المربع وعليشة والفاخرية الواسعة والتي تصطف على جانبيها القصور الفارهة بحدائقها وأحواشها الواسعة، والتي لا تشاهد منها سوى غرف "السنترال" أمام البوابات المزدانة بالقرميد والحديد "المشغول"؛ في حين كان النوم على سطوح المنازل ظاهرة بل عادة اعتادها أبناء المدن الذين يقطنون في البيوت المشيدة بالبلوك المسلح، ويحدث حينها أن يجتمع بعض "الزكرت" في سطح صاحب لهم "يدندنون" في الخفاء؛ إذ لا يكاد يسمع النواب "دندنة" ما يحتضنونه من "العود" و"الكمنجة"، وربما تتوقف حناجرهم المبحوحة من لوعة الفراق ولهيب الأشواق لمجرد سماع صوت امرأة مسنة من سطح المنزل المجاورة يناديهم "أزعجتنا يا غراب البين.. خل العيال ينامون". التسعينيات: أرض وقرض عقاري وتخطيط مدن وجامعات وبعثات و«سينما» و«التاكسي» سعودي والعمالة يمنية التسعينيات الهجرية بدا التغير الاجتماعي واضحاً جلياً في عقد التسعينيات الهجرية "السبعينات الميلادية"؛ إذ قفزت أسعار النفط بعد حرب "أكتوبر" إلى أعلى مستوى في تلك الفترة تزامن معها بدايات أقراض الصندوق العقاري؛ الذي ساهم وبدرجة كبيرة في النقلة الاجتماعية و"الديموغرافية"، لمجتمعنا وبزيادة عدد السكان والمساكن في المدن الكبرى، حيث الهجرة إليها ظهرت جلية في هذا العقد الذي عرف الشباب حينها ضرورة الالتحاق بالأعمال الحكومية والأهلية، ناهيك عن الالتحاق بالجامعات الكبرى التي تزامنت هي الأخرى مع طفرة المعاهد والبعثات الخارجية، كما أدرك عامة الناس في أواخر هذا العقد طفرة المنح في الأراضي وتخطيط المدن، كما ظهرت خلاله السيارات المكيفة وأمور أخرى ما زال أبناء ذلك العقد يتذكرونها جيداً، لا سيما تلك التي كانوا يشاهدونها بشاشة التلفاز كالمنافسات المحمومة بين محمد علي كلاي و"فريزر" وأفلام "ستيف أوستن"، كما ظهرت خلال التلفاز مسابقة فوازير رمضان وازدهرت المسلسلات المصرية والكويتية بعد أن كانت برامج الثمانينات الهجرية شبه مقتصرة على الإنتاج المحلي والأفلام والبرامج اللبنانية والأجنبية. كانت اليد العاملة مقتصرة على أبناء اليمن السعيد وبعض الوافدين من الجالية الباكستانية الذين يعملون بمشاغل الخياطة النسائية آنذاك، كما كانت سيارات الأجرة "مسعودة بالفطرة"، ولا وجود حينها للعمالة المنزلية في منازل عامة الناس التي كان "مطوع الحارة" يطرق أبوابها مع حلول موعد أذان صلاة الفجر؛ لا لشيء سوى التنبيه للنهوض لأداء الصلاة "صلوا يرحمكم الله". صرّاف على رصيف بين دخنة والصفاة وسط الرياض الثمانينات الميلادية لذة العيش ومحاسن الذكريات وربيع العمر تتجلى عند أبناء جيل الثمانينيات الميلادية الذين ما زالوا يتذكرون جيداً كيف كان الشارع الرياضي صاخباً مدوياً مع كل مباراة تجمع منتخبنا الوطني والمنتخب الكويتي، كما كانت مسابقات دورة الخليج في بداية الثمانينيات مصاحبة لتأسيس مجلس التعاون الخليجي أحدوثة جيل ذلك الزمان، ناهيك عن المنافسات الرياضية المحلية التي عرفت اللاعب الأجنبي في نهاية العقد المنصرم، كما كانت حضارة الكرة السعودية وباكورة مجدها وإنجازاتها سيما مع انتشار ملاعب الحواري التي شهدتها مدن وقرى بلادنا في كل مكان. ما أن يرد ذكر الثمانينيات الميلادية، إلاّ وتسمع عن أماسي برحة الملز بالرياض وشارع الثلاثين في العليا والتنافس المحموم بينه وبين شارع الستين "صلاح الدين"، ناهيك عن حضارة شارع المتنبي وأسواق العقارية وأسواق الجوهر وسروات، وفيه ظهرت الإعلانات التجارية في التلفزيون السعودي، كما تستمر العالم أمام أحداث مرور مذنب هالي وسقوط المكوك "تشالنجر" ناهيك عن ظاهرة انتشار المدارس الأهلية وظهور الأكلات المستوردة والمطاعم الأمريكية، وبداية باكورة أنشطة مهرجان الجنادرية ومعارض بين الأمس واليوم وانتشار المراكز الصحية الحكومية والتوسع في شبكة الطرق والأحياء الحديثة، وتوفر الوظائف في جميع القطاعات وسهولة الحصول على المورد المالي، من خلال فرص التجارية والاستثمار ناهيك عن الطفرة الاقتصادية للبلد، والانتشار الملحوظ للأسواق النسائية. في هذا العقد ازدانت صحفنا بالألوان وزادت من عدد مشتركيها، كما عرفت العمالة الكورية مع بداية الطفرة وانتشرت مكاتب الاستقدام وعرفت المنازل ظاهرة "السائق والخادمة"، أما في مواسم الأعياد فتخلو المدن الكبرى من سكانها الذين شدوا رحالهم لمعايدة "الجد والجدة"، كما كان الشباب يعيشون ظاهرة "مايكل جاسون"، و"بريك دانس" ومغامرات الحلم الأمريكي "داستي روج"، وبطل ما وراء القارات "بدرو مورانس"، و"هولك هوقن" في حلبات المصارعة الحرة، ناهيك عن ظهور البدايات الأولى الظاهرة "التفحيط" وشارع "الموت" و"البراميل" و"الغزل" عبر أثير الهاتف الثابت، كذلك قصات الشعر المتمثلة بقصة "الأسد" والقصة "الفرنسية" التي تزامنت مع الثياب الليّنة والأحذية المخملية. دفعة من الخريجين المبتعثين حيث شهدت بدايات التعليم الجامعي عاش جيل الثمانينيات القرارات السيادية المتمثلة بإعدام المروج وتصوير المجرمين في تقارير تلفزيونية أواخر نشرات الأخبار الرئيسة وبدايات ظهور دوريات أمن الطرق، كما عاش طفرة البرامج التلفزيونية في مغامرات الأطفال ومسابقات الكبار، وكانت حينها ملاعب الحواري لا تخلو من مهاجم يحمل الرقم "9" ومدافع يحمل الرقم "5" كناية عن نجمي الكرة السعودية آنذاك "ماجد عبدالله" و"صالح النعيمة" اللذين لا يزالان يهمسان في آذان أبناء الجيل الحالي كيف كان طموح الكرة السعودية، وكيف كان تحمّل المسؤولية. الثمانينيات والتسعينيات الميلادية: فن ورياضة ومطاعم و«صحوة» وعمالة آسيوية وتعليم مطور و«حاسب» و«بيجر» في منتصف الثمانينيات الميلادية ظهرت بوادر الصحوة وبدأ الشريط والنشيد الإسلامي يردد "مؤامرة تدور على الشباب" ومن أين أبدأ يا عيون الشعر يا وطن الجدود"، وحينها ظهرت الأحاديث والخطب في المنابر والمدارس وبدأت معها المراكز الصيفية وتوعية الناس من أخطار المخدرات بعبارة عممتها الرئاسة العامة لرعاية الشباب على قمصان لعيبة الكرة؛ مفادة أن "لا.. للمخدرات"، كل هذا الحراك ساهم وبدرجة كبيرة في وأد ظاهرة الإغاني الغربية ورقصات "بريك دنس" و"جورج مايكل"، لا سيما وأن الشارع الرياضي حينها أصبح مهووساً بظاهرة "ماردونا" الذي حقق كأس العالم لعام 1986م كتتويج لمستوى منتحب بلاده الإرجنتين. التسعينيات الميلادية في التسعينيات الميلادية خرج الناس من أتون حرب الخليج الثانية إلى عالمٍ اتصالي تقني جديد؛ تمثّل في ظهور القنوات الفضائية، وبزوغ نجمي البيجر، ومن ثم الجوال و"الإنترنت"، كما عرف التنزه بالاستراحات خارج المدن، لا سيما بعد انقطاع مظاهر المخيمات في "طعوس الجنادرية" بقرار من الأمانة، ناهيك عن انحسار اليد العاملة اليمنية وكثرة العمالة الوافدة من بلاد البنغال والهند وشرق آسيا، كما عرفت النساء المشاغل النسائية التي تديرها عاملات شرق آسويات، كما انتشرت ظاهرة المجلات الشعبية، وتابع الشباب الرياضي الدوري الإيطالي، كما عرفت منازلهم مكيفات "السبيلت" والميكفات السقفية الحديثة، وتعاملوا حينها مع السراميك عوضاً عن المفروشات والسجاد، واستبدال الشباب قصات الشعر ب"الكابوريا"، وتأهل حينها منتخبنا الوطني إلى نهائيات كأس العالم، بل قد تجاوز الدور الأول منه إلى مرحلة الدور الثاني، وبدأت معها معاهد الحاسوب والتعليم التقني تدخل ضمن خيارات الشباب التعليمية والوظيفية، بل أعادات وزارة المعارف آنذاك نظام التعليم المطور إلى نظامه السابق في التعليم الثانوي الاعتيادي، بعد أن نقلت إيجابياته التعليم المطور إليه، ومن ضمنها إدراج التخصص الإداري وتعليم الحاسوب لكافة طلاب المرحلة. الألفية بدت الألفية الجديدة تمثّل نقلة فارق في ميادين التغيّر الاجتماعي وأصبح مصطلح العولمة والعالم المفتوح واقعاً يتعايش معه أبناء الألفية في قراءاتهم ومشاهداتهم - التي عبرت عن صدقية النظريات الإعلامية حين توقعت أن يصبح العالم في قادم أيامه عبارة عن "قرية كونية"-، فما يشاهد هنا سوف يشاهد هناك وما يعيشه الناس في أصقاع المعمورة سيراه الملأ بلبعيد ويتعايشون معه، لاسيما وأن أدوات بل منجزات التقنية الحديثة ساهمت وما زالت تساهم في بناء "القرية العالمية" التي يتربع أبناء بلادنا على مقاعد السبق في عالمها الجديد؛ المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية التي تشهد إحصائياتها على حجم الزخم، والفارق الذي تقدم به أبناء المملكة على كثير من نظرائهم في الدول الأخرى. بدايات التعليم شهدت تحدياً كبيراً قبل خمسة عقود شباب الحارة أكثر تواصلاً وفرحاً موروث الترفيه بقي مسيطراً على الأجيال رغم تقدم العمر «أرشيف الرياض» مباريات الهلال والنصر قديماً كانت أكثر إثارة من دون تعصب