نسيبة بنت كعب، امرأة من الرعيل الأول، لا يستطيع أحد أن ينكر فضلها، ولا يمكن لأحد أن يقلل من شأنها، أو أن يتهمها بسوء، أو أن يشكك في عفتها وقوة إيمانها، وشدة بأسها. هي امرأة نالت من الكرامة ما يطمع في جزء منها أي امرأة عاقلة، بل يعجز الرجال الأشداء أن يسيروا في سفحها. لله درها من امرأة غيبت سيرتها الغيرة، وستر مناقبها تسلط الرجال على التاريخ والفقه! وأخفت بطولتها شهب النجومية المزيفة لنساء كاسيات عاريات! يقول عنها الإمام الذهبي: الفاضلة المجاهدة الأنصارية .... وحتى لا يساء الظن بأهلها وقومها، فقد كان لها أخ بدري، وآخر من البكائين. فهي امرأة في أسرة متدينة لها فضل الصحبة، وكرامتها، وأسبقيتها، فهي وأخواها من السابقين الأولين، الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه، وجعل الخير كله في اتباعهم، والسير على طريقتهم بإحسان. هل تعلم أخي الحبيب أن أم عمارة كانت ممن بايع ليلة العقبة؟ وممن قاتل يوم أحد؟ وممن شهد الحديبية؟ ويوم حنين؟ وقطعت يدها في سبيل الله وهي تقاتل في اليمامة، وكان زوجها غازيا معها؟ بل كان معها ولداها؟! تقول نسيبة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان. وهو من أحاديث السير. لقد فاقت الرجال بموقفها وبسالتها، وهي التي ضربها ابن قمئة على عاتقها، وجرحت ثلاثة عشر جرحا في أحد. كانت تقاتل مع زوجها وابنيها في أحد، حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويدافعون عنه، فرآها عليه الصلاة والسلام غير متترسة، ثم رأى رجلا موليا ومعه ترس فقال له: ألق الترس إلى من يقاتل. فألقاه، فأخذته، فكانت تترس به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. جرح ابنها فنزف دمه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اعصب جرحك. فأقبلت أمه إليه ومعها عصائب فربطت جرح ابنها ونبي الهدى واقف، فقال: انهض بني فقاتل القوم، ثم قال: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة! فلما أقبل ضارب ابنها أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هذا ضارب ابنك. فاعترضت له وضربت ساقه فبرك. فتبسم الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم وقال: استقدت يا أم عمارة. هذه نتف من مواقفها رضي الله عنها، وقد يعترض علينا معترض بأن هذا كان قبل نزول الحجاب، فالقصة في أحد، ونزول الحجاب بعد ذلك بسنين. فأقول قد ذكرت أنها ممن شهد الحديبية وحنين، وإنما قطعت يدها في قتال مسيلمة في عهد الصديق رضي الله عنه، وأيضا فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يأتيها ويسأل عنها بعد الحرب، وبعث إليها عمر رضي الله عنه بمروط فيها مِرط جيد. من هذه النتف نستطيع أن نعلق لافتات كبيرة تحمل تساؤلات عن المرأة في مجتمعنا، دورها، مكانتها، أفعالها، لماذا يعترينا الرعب، وتأخذنا الحمية، وتنطلق الألسنة، وتنتشر الردود، وتعلو الأصوات، وتتبادل التهم، والتصنيفات كلما كانت المرأة طرفا في أي قضية في مجتمعنا. المرأة في بلادنا هذه الأيام تستعد لتكون عضوا في مجلس الشورى، وكثير من قضاياها مازالت تحت أخذ ورد، وحرب سجال، يستعرض كل فريق ممن يتناوشها قوته، ويستعدي أتباعه ليحقق ما يراه تقدما، أو صيانة للفضيلة، أو حرصا على حقوقها، ومكتسباتها. المرأة في بلادي تعاني الأمرين، تخنق باسم الدين، وتستغل باسم الحرية، وتداس باسم الغيرة، تناضل لتحصل على بطاقة تثبت هويتها، وتعيش عمرها كله أو أكثره وهي بغير اسم، أم فلان، أو أخت فلان، أو كريمة فلان، فحتى اسمها يرونه عورة، وهي دوما على الصامت، لا تسمع لها همسا، ولا يرتفع لها صوت. كل ما أريده هو كيف أفهم سيرة أم عمارة، نسيبة بنت كعب، رضي الله عنها، في ضوء واقع مجتمعنا اليوم؟