عرف شهر العسل منذ زمن طويل، ولكن تقاليده مرت بمراحل متنوعة بدءاً من إراحة العرسان من مسؤوليات العمل الرسمي والأسري وانتهاء بالسفر لقضاء رحلة سعيدة في ربوع تتيح للعروسين الخلوة والمتعة بالسكن والتجول بعيداً عن مسؤوليات الحياة الجديدة لهما وتخففا من زيارات الأهل والأصدقاء. وهذا تقليد له ما يبرره، فالانتقال من حياة العزوبية المثخنة بالأحلام والتردد والارتباط إلى حياة الاستقلال والمسؤولية وبناء مستقبل أسري منشود. كل ذلك يتطلب من العروسين وضع الأسس المساعدة على تحقيق الآمال وتعميق التوافق فيما بينهما دونما تدخل من أطراف أخرى، فهما يضعان في هذا الشهر خريطة طريق لمستقبلهما. شهر العسل ما بين عِجْزٍ وشيَّاب ... بِدْوَيْرةٍ بانت ملاحم خشبها وشاعرنا الظريف حمد الحميّد من أهل أشيقر له قصائد اجتماعية جميلة عن العزوبية قبل تجربة الزواج الأول وأخرى يبدو أنها قبل التجربة الثانية، وقصيدة يصف فيها شهر عسل قضاه في أشيقر، ومن المؤكد أنها أيام لا شهر إلا أنها كانت إجازة رسمية بداعي العسل. والحقيقة أن الأمهات يولين العرسان اهتماماً خاصاً من حيث التغذية وتجنيبهم ازعاج الأطفال وتحقيق الخلوة الكاملة للعروسين، وتوفير الماء الساخن، الذي يخضع فيما بعد لتفقد صرفه وازجاء نصح أم العريس لابنها ألا يسرف. اليوسف ومن الطرائف أن عريساً في ليلة شاتية أمضاها مع زوجه في منزل أهلها الذين خصصوا لهما غرفة في الطابق الأعلى من منزل تقليدي وإلى جوارها مطبخ صغير وضع العريس إبريق التسخين على طباخة (تولة) ودخل إلى زوجه فأدركهما النوم ونسيا الابريق الذي أخذت صفارته تصيح بلا مجيب ما اضطر أم الزوجة أن تصعد وتطفئ الطباخة التي سببت ازعاجاً في المنزل. نعود إلى شاعرنا الحميِّد في منزله الطيني الذي أبدع في وصفه: شهر العسل ما بين عِجْزٍ وشيَّاب بِدْوَيْرةٍ بانت ملاحم خشبها دار غَمَاها يرسل هْداد وتْراب يا ما عَثَرْ سكانها في عَتَبْها الكف يدخل بين فتحات الابواب وحْلوقها للعَيْن بيِّن عطبها أطْول خشبها ما يجى طول مشعاب وقْصارها حول المناصب حطبها الحميّد أي عسل هذا؟ لكن مهلاً فالشاعر يصور حالة وتجربة كان بها سعيداً مهما وصفها بالبؤس، فالسعادة ليست بالشكل والطعم، إنها بالروح التي تختلج بين الصدور، مثيرة الفرحة بين العروسين والأهل والجيران والأرحام ببلوغ هذه المرحلة من حياة الزوجين، يشهدان معالم الفرحة على محيا كل محب لهما، وينصتان إلى الدعاء بالتوفيق والأمنيات الجميلة، يمضيان هذه الأيام بين محبيهما فيشعران بالسعادة، ليس كمن يقضيها بعيداً بين أناس لا يشعرون بمشاعر الأهل. والشاعر يبدي ابتهاجه بعد تذمره فيقول: لا شك أنا اغْلي كل مَرْبَى للاحباب دْويْرتي عندي عظيم عَجَبْها لكن انا مما مضى صرت منصاب دار كُبُرْ جِمْعِي كثير طربها يا ما بها نَلْفِي بَروْشَنْ ومِجْباب وطْويَّةٍ نفسي بها القت عتبها لعل مِرِّثْها لجنات واعناب يا هَبْه رب الناس مَعْ من وَهَبْها يعود الشاعر بعد السخرية الأدبية من تجربته العسلية إلى المعاني الجميلة التي صاحبت عسله فيعتذر إلى دياره التي أمضى بها طفولته وشهدت مرحلة انتقاله إلى الرجولة، ويصغر كلمة ديرتي (دويرتي) تصغير تمليح وإشفاق، معلنا عظيم عجائبها، والعجائب إطلاق إلى كل ما هو جميل. ومع صغر هذه الدار التي يمثلها بقبضة اليد ومع ذلك تتعدد مجامع الطرب بها، وهو اكتمال جوانب السعادة بين مصابيحها ومجبها ورواشينها التي رغم صغر مساحة الدار فإنها لا تضيق بكثرة روادها. ويختتم أبياته بالدعاء لمن أَرَّث هذه الدار أن يسكنه الله فسيح جناته مع من يهبه الله الجنة والغفران. هكذا تنتصر المعاني الجميلة. ترى هل تبقى رابطة المكان اليوم حساً أثيراً إلى النفس مثلما نجد في الموروث من أثر السابقين؟ وما دمنا بحضرة الشاعر الظريف فلنقرأ له أبياتا في ذم العزوبية: طَلِّقْ طَبْخك هو وقدوره وَشْ لك في دار الغربالِ دارك من عفْشك منثورة تلقى صحونٍ مع فنجالِ إلى قوله: بيته تكثر فيه حفوره أو ساخه توقر حمّالِ القواطي هي وقشوره تملا داره لَيْن الجالِ وقوله: وقرارة رزّه بقدوره يا ما حرَّقها بالصالي العزبة قشرا مذكورة تذهب نفسك هي والحالِ وقوله: اسمع كانك تاخذ شورة واسكن مع بنت الحلالِ تسكن في دار معمورة راحة بدنكم والحالِ ويبدو أنه تزوج وعاد للعزوبية وكرر ذمها في قصيدة أخرى: أنا ما دَرَيْت ان العزوبة تجيب جنون إلين اصبحت داري من الزَّوْل مَخْلِية ليال العزوبة تجعلك خادم الماعون على مطبخك دَنْدَنْت ما رحت لك نية معاميل دارك وسخةٍ تجهل الصابون نظافة مواعينك على الراس حولية حلاة الفتى لا صار له منزل مسكون يريح الضمير إلى دخل عند حورية شاعرنا تربوي من مواليد عام 1359ه وله نصوص شعرية كثيرة نشرها له الأستاذ سعود اليوسف في كتابه: «أشيقر والشعر العامي» وهو كتاب جميل فيه تعريف بشعراء أشيقر ومن جاورهم ويضع بين أيدينا لونا من ألوان الحياة في الماضي البعيد والقريب، من معاناة مع الرزق والقيم الاجتماعية المعاندة للرغبات المتطلعة إلى حياة مختلفة.