نبدأ في هذا المقال باستهلال بسيط حول ملكة الشعر، باعتبارها موهبة واستعداد تخص الشاعر وحده ، لكن يقال أن الشعر وراثة ، أي أن من كان له في السلالة شاعر فإنه يرث منه الموهبة ، وهذا يعني أنه يملك الاستعداد لأن يقول الشعر و قرضه والتعبير به كأسلوب يتم التواصل مع الآخرين بأسلوبه ، شأنه شأن الصفات الأخرى لون العين والبشرة والقامة والصفات الجسمية. أنا لا أصدق هذا على إطلاقه، وإلا لكان العدد يتزايد بمعدلات كبيرة حسابية وهندسية في العائلات، ولكن أصحاب هذا الرأي يستندون على شواهد وحقائق، بأن في عائلة الشاعر يظهر لنا شاعر مثله أو أقوى منه، لكن هذا وحده لا يكفي لأن نقول بأنه ورث الشعر، بقدر ما نقول إنه خضع للمؤثرات نفسها، بدليل ظهور العديد من الشعراء في فترات معينة ، والعكس غياب الشعراء في فترات أخرى، بغض النظر عن انتمائه لعائلات تشتهر بقرض الشعر . ابن خميس هذا جانب مما يتضمنه هذا المقال، أما الجانب الأهم وهو ما يفترض أن توضع النقاط على الحروف حوله فهو : هل يحق لأقرباء الشاعر مثلًا أن يدعو براعتهم في الشعر ابتداء من تصرفهم في قصائد مورثهم للشعر بحيث يتقمصون دوره ومكانته ويقترحون حوله أو يهيمنوا على مساره ومعانيه بحيث يضعون لأنفسهم بعد رحيله مكانة الوصاية عليه تعديلا وتبديلا واعتراضا وتدخلا في الروايات وأحيانا منعا وسماحا وسلطة ؟ إذا قلنا إن الشعر وراثة فحتما تبدأ هذه الوراثة بكل شيء ، حتى في عمليات التدخل الانتقائي والتنقيح والتعديل . محمد سعيد كمال بمعنى أوضح هل لأقرباء الشاعر وهم في حياته لا يعرفون الشعر ولم يسهموا في روايته ولا وجود لهم في حياة الشاعر الأدبية، سوى القرابة الاجبارية وغير الاختيارية، أن يكون لهم من بعد وفاته وغيابه عن إنتاجه، التصرف في تعديل الروايات والتحكم في مسار القصائد التي يتم تداولها مشافهة مستفيدين فقط من مسمى القرابة بحيث يكون قولهم هو الفصل في أي خلاف يقع في الروايات مع العلم أنهم لا يفقهون في الشعر شيئا . إن الارث كما نعرف يكون للماديات، للمال والعقار والممتلكات المنقولة وغير المنقولة، وما خلفه الأموات مما كان في حيازتهم وملكهم، حتى الديون التي لهم وكلها واضح القول حولها، وهي تنتقل للوريث بأعيانها جامدة من المعاني والأحاسيس حاضرة بالقيمة المادية، كما يرثها الفرد منا شرعا وعرفا وتلقائيا دون جهد، وأيضا يرث طبعا غالبية صفات سابقيه وسلفه الجسمية و النفسية والنسب والألقاب والإرث التاريخي العائلي، فهو إرث يضاف له إجبارًا . كل هذه الأشياء توضع على عتبة بابه ويدخلها بيته قبل وبعد موت من سبقه إلى الفناء من أهله وآبائه . هذا الإرث المنوع خليط عجيب يتراكم حوله ولكن عندما يفتش فيه و يبحث لا يجد الخصائص في الغالب والملكات والقدرات من بين الماديات . وعلى هذا فالشاعر لا يورث ملكة الشعر وموهبته لمن بعده ولا خبراته وتجاربه، كذلك كل الميول حركية وتصورات وأفكار واعتقادات وخبرات وأحاسيس ومشاعر ذوقية..الخ وبالتالي ليس كل قريب للشاعر ولو كان ولده، هو شاعر مثله أو متذوق للشعر بالضرورة فإن كان كذلك فعلا فليس لأنه ورث ممن قبله تلك الأحاسيس والمواهب والقدرات ولكنها موهبته هو وميوله المنفصلة عن غيره مبتورة عن سابقه وستبتر عن لاحقه، يكون لها درجتها من القوة والضعف بحسب تجاربه ومدى حماسته لهذا الاتجاه وبناء ذاته وخبراته دون الاستناد على وريث توفي ولم يتأثر به شخصيا من خلال الاحتكاك والمحاكاة . ويميل المجتمع إلى الاقناع والتأثير الخفي أو الايحاء الضمني لبعض قرابة الشاعر أو الموهوب أيا كان ، بأنه سيكون وريثا لتلك الملكة، وبالفعل يكون شاعرا مثل من سبقه أو متفوقا عليه، والحقيقة أنه لم يرث ذلك وإنما هيء لهذا وظن أنه إرث جاءه من أجداده فتأثر كغيره من الناس الأباعد الذين تحمسوا لصقل ميولهم ونجحوا ، والمتوقع من شاعر في مثل هذا الوضع أن يستجيب لقناعاته المتأثرة بأقوال من حوله كونه إرث ليكتسب مع الموهبة تاريخاً شعريا عائلياً ولو لم يكن صحيحا ، وهذا يعزز في نفسه الرضا أكثر مما لو كان بروزا بلا جذور . لكن لو عدنا رجوعاً فسوف نجد الشاعر الأول من الأجداد لم يرث خصائصه الشعرية من أحد قبله حتما، وبالتالي تنفرط السلسلة أو تقف عند طريق مسدود، لأن الأول في قول الشعر يدعيه منفردا مستقلا، وبالتالي ينتفي ادعاء الإرث، كذلك الواقع يثبت أن كثيرا من الشعراء لم يكن أولادهم يجيدون قول الشعر ، وهذا يجبرنا على أن يكون لدينا مخارج أخرى و خيارات في هذا المجال فنقول : أن الشعر إرث عند من يريد أن يكون إرثاً، وموهبة مقطوعة عند من يريد ذلك، وهذا يريحنا وينسجم مع الرغبات ونرضي جميع الأطراف، أما الحقيقة فإن الشعر إمكانية ومقدرة وموهبة يستقل بها صاحبها، تبدأ عنده وتنتهي إليه هو، هاجس يجده في نفسه كما يجده غيره من الناس ولكن الشاعر يملك التعبير بحسب ما لديه من مفردات وثقافة ولغة وتأسيس لهذا التعبير وتقليد لغيره في محيطه أو قبله، متأثرا بمن حوله ومن قرأ له أو سمعه، فنجد كل شاعر له صفات شعرية بمن عاصره أو بمن كان قبله، وقل أن نجد شاعراً وحيد نسجه في إنتاجه ولكنه وحيد نسجه في إبداعه فقط ومثل هذا الإبداع عادة لا يكون غالبا ولا كثيرا وليس كل شاعر يتمكن منه بالضرورة ما لم يكن متميزا بالفعل، مثل ذلك مناهج القصاصين والمؤرخين والخطباء والكتاب ...الخ هي منتجات ثقافية أدبية بشرية وإفرازات أحاسيس ومشاعر خاصة بصاحبها متأثرا بالمحيط الاجتماعي والبيئي والمعاناة الذاتية والملكات الفردية والاستعدادات النفسية والمؤثرات من حوله والنشأة ومدى حساسية الفرد ذاته وقدرته على صياغة التعبير عن هواجسه ومشاعره وإيصال فكرته وتحديد رؤاه وتطلعاته ورغباته، وكل هذه تخصه هو لا علاقة لأحد سواه بها ولا يستطيع أحد من الناس صياغته كشخص لكي يكون كما كان. كما أنه لا يمكن تخريج شاعر من مدرسة تعلم الشعر وتزرع ملكاته ومواهبه مهما كانت على قدر من العطاء والقوة . القسم الآخر من وراثة الشعر يتعلق بالمشكلات التي قد يوجدها ذوو الشاعر نفسه، ممن يتدخلون في إنتاج الشاعر بعد رحيله، وهم في حياته لم يظهر لهم وجود لا في رواية ولا في حماية ولا في انتماء ولا تشجيع بل ربما كان بعضهم معوق للشاعر عن قرض الشعر، وكأنهم لا يعرفونه ولا يعرفهم ، فإذا رحل برز عدد منهم حماية ودفاعا وتعديلا وتغييرا لكل إنتاج الشاعر قريبهم، وكأنهم يرون هذا الإنتاج لأول مرة، أو هي الرغبة في أن يكون لهم بالشاعر وإنتاجه صلة حميمة فإن كان مشهورا صار الصراع على شهرته، وإن كان ناجحا تقاسموا نجاحه وطمعوا في تميزه، والعكس صحيح أيضا إن كان الشاعر فاشلا، حيث يقابل إنتاجه بالتجاهل والنفور والرفض وكذا إن كان شعره هزيلا منبوذا وهو هجاء هجومي بذيء اللسان، وكل هذا نوع من الإرث الجبري بحكم القرابة والاشتراك في النسب لا أكثر و يحتاج إلى إعادة نظر، ولا أعني بالطبع حقوق الملكية المعروفة المحددة المقننة والتي لها مدة معينة وكيفية محفوظة ولها محددات مادية تورث ومعنوية خاصة به لا يرثها أحد ولا يمكن أن يرثها أحد بأي شكل من الأشكال، ولا توهب ولا يمكن التخلص منها ولا رفضها ولا تجاهلها، أما المادية فيمكن تطبيق كل ما ينطبق على الماديات عليها : إرثها والتنازل عنها وهبتها وتجاهلها ورفع سعرها وخفضه وبيعها وطباعتها وتوزيعها دون تعديلها أو تغيير شيء فيها. وهناك من أقرباء الشعراء من يستعذب فكرة التأثر بالنسب والإرث وبحكم القرابة يخول لنفسه الدخول في دائرة قد لا يحسنها وليس لديه الأدوات التي تمكنه من التعامل مع الشعر وروايته ومع هذا وبحكم القرابة من الشاعر يجد أنه الأولى والأحق بالرواية وطرح الرأي والتفنيد أو التعديل أو الفهم والشرح لقصائد قريبه الشاعر الراحل . وما يقال عن القرابة يقال عن الأقاليم والمناطق والبلدان، فليس كل أهل بلد أحق بشاعرهم وأقدر على رواية شعره وإن كان هذا هو المفترض، لكن الحاصل أن أزهد الناس في الشاعر أهل بلده، وأزهد الناس في العالم هم أهله، وأزهد في إدارة العمل هم أولاد المدراء وأزهد الناس في العمل في المشاريع هم أولاد أصحاب المشاريع ....الخ ليس بالضرورة مثلا تفرد أهالي سدير بحفظ شعر ابراهيم بن جعيثن أو محمد بن لعبون، ولا أهل القصب بشعر حميدان الشويعر أو جبر بن سيار، ولا أهل القصيم بشعر محمد القاضي ولا أهل الروضة بشعر رميزان بن غشام، ولا أهل ثادق والمحمل بشعر محمد بن عمار . وعبد الله بن ربيعه، ولا أهالي السر والوشم بشعر سليمان بن شريم ...الخ وهذه الملاصقة التي نعمل بها ، منطقية وافتراضية وعقلانية وتتماشى مع ما يتوقع أن يتم، ولكنها ليست مؤكدة النتائج ويخالفها الواقع بشكل ملحوظ . إننا نجد جل ما حفظ من الشعر إما في مخطوطات أو دواوين خارج تلك المناطق والبلدان ولا أدل على ذلك سوى ديوان خالد محمد الفرج ووديوان عبدالله بن خالد الحاتم وديوان سعد بن حريول، وكتب عبدالله بن خميس وكذلك عبدالله العلي الزامل، والأزهار النادية من أشعار البادية لمحمد سعيد كمال . وغيرها الكثير من الكتب والدواوين مما لا حصر له وجلها جاءت من خارج الأقاليم والبلدان وجمعت محتوياتها من كل طرف ومهتم بالرواية لا منتسب لجغرافية المكان ولا قبيلة و عشيرة محددة ولكن منتسبا للأدب وحب الثقافة والشعر وله ميوله واهتمامه بذلك . ومما يغلب على الظن عند الكثيرين أثناء تدوين المعلومة افتراض التأثر الأكثر داخل المكان وجغرافيته الطبيعية والبشرية ، ولهذا نبحث في ذلك أول ما نبحث معتقدين أن هذا لظن بقيني أو على الأقل يعفينا من القصور عندما يحصل ، ولكن الواقع مخالف لذلك ، فالمعلومات لدى المهتمين وليس لدى الملاصقين . وننتهي من كل ذلك بخلاصة مفادها أن الشاعر بعد وفاته قد يوجد لإنتاجه في بعض الأحيان ألف وريث ووريث، ومهتم ومدافع ومدع قربه ومعرفة تفاصيل حياتها ، وفي المقابل قد لا يجد شاعر آخر من يهتم به ولا بشعره بل ربما الجميع يتنكر لشعره وإنتاجه حتى ولو كان من أهل بلده أو ولده، وهذا كله راجع لنوعية الإنتاج ومضامين قصائده وحجم الجماهيرية وقت عطائه وشهرته التي من خلالها يتسابق الآخرون للكسب المعنوي منها كإرث يتم الاستيلاء عليه بلا سلاح ولا وثيقة ولا وصية . هناك شاعر، الكل يدعي بعد غيبته ورحيله أنه أعرف بشعره من غيره ويسعد بانتسابه إليه ، وشاعر آخر الكل يؤكد أنه لا يعرف عنه شيئا ويمسح معلوماته من ذاكرته، وعلى هذا فالشعر لا يورث كموهبة ولا إنتاجا، ولا القريب من الشاعر أعرف به بالضرورة ولكن الانساب إلى العائلة الأدبية والأسرة القافية هي في الحقيقة التي تتبادل وراثة الإنتاج رضي من رضي وغضب من غضب .