رؤية تؤكد أن امريكا في وضع لا تحسد عليه.. وأخرى تبرهن أن الكل يحسدها عليه.. دولة ليس في مقدورها أن ترضي كل "أحد". ولا يتحقق أيضا أن يفهمها كل "أحد". وقبل هذا وذاك تتوفر لأمريكا صفتان أو وضعان لم يحدث على مر التاريخ البشري سياسيا وعسكريا أن توفرا لأي "أحد".. إنها قارة معزولة.. غنية بكل شيء.. وليست في الغالب محتاجة من خارجها إلى "أي شيء". ولم يحدث أن تفردت قوة عظمى بضخامة الخصوصيات العلمية والاقتصادية والسياسية مثلما هي تتفرد بجميع ذلك.. لكنها لا تفقد أعصابها بسهولة, فمثلا قضية "لوكربي" تقارب في عمرها العام السابع, ومع سهولة إرسال صواريخها لتجوب أقصى آسيا أو افريقيا أو اوروبا, إلا أنها ولأسباب ذاتية تفضل أن تأخذ هذه الصواريخ شكل الفرق الاستعراضية الفنية العالمية فتعبر الأجواء وعن يمينها راقص صاروخي بريطاني وعن يسارها آخر فرنسي دون أن تكون في حاجة ملحة وفعلية إلى مثل هذه الزمالات المدمرة.. إنه تماما ما حدث في العراق ويحدث الآن في يوغوسلافيا.. في العودة إلى السطر الثالث والرابع من هذا الموضوع سنجد أن ثمة تقاطعات اعتراضية ومقارنات أخلاقية وقانونية جميعها تتراشق مع الموقف الأمريكي إن لم يكن بإلحاح المطالبة فمن خلال ايحاءات الغمز حيث يقال: إذا كان أن الحرب ضد يوغوسلافيا مبررها ما تمارسه حكومة سلوبودان ميلوسيفيتش من تمييز عنصري وتطهير عرقي استلزما استمرارية حرب إبادة وحشية طالت الأطفال والنساء والعاجزين.. فهي حرب مشروعة أخلاقيا , لكن أليس هذا المبرر يتوفر في تعامل تركيا مع الأكراد.. التي قد توسعت في مطارداتها ضدهم حتى توغلت في شمال الأرض العراقية.. واذا كان أن نظام بغداد بقيادة صدام وعشيرته خطير على السلام العالمي وعلى سلامة الجنس البشري حين تصبح أسلحة الدمار الشامل في أيدي متسلطين سياسيين لهم من الفجور السياسي والأمني ما يستلزم تلافي امتلاكهم لمثل هذا السلاح بقوة دولية مشتركة أو قوة امريكية خاصة حيث أي منهما يؤدي خدمة انسانية فاضلة.. لكن ماذا عن اسرائيل..؟.. وهي لا تخفي حيازتها لكم مخيف من السلاح النووي, واذا كان أن نتنياهو لا يعيش أحلام سطو عسكري على الأضعف من جيرانه واحدا تلو الآخر فإنه انسانيا لا يقل بشاعة عنه في تعامله مع الفلسطينيين العزل الذين تحولهم مشاريع الاستيطان إلى مشردين, وفي هذه النقطة تجمعه مع الرئيسين العراقي واليوغوسلافي صفة مشتركة.. ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن الرئيس الصربي سلوبودان قد قدم خدمة كبيرة لنوايا المواقف الأمريكية حيث قبل أن يركب رأسه كان من الصعب عقليا أن يتقبل الفهم العربي مسألة ان الرئيس العراقي يتصرف سياسيا وعسكريا بإيحاء من جنون ذاتي.. كان ثمة من يتلمس مظاهر توظيف لصدام لإحراق المنطقة, لكن ها هو الرئيس الصربي يرتكب نفس الحماقة ويتصدى لقوى أكبر من دولته وقدراتها مدفوعا بعقد نفسية ذاتية ربما بدأت مع انتحار والده ثم والدته قبل أن يتدرج في مواقع المسؤولية, ولعل دافع التشريد والمطاردات في شباب صدام ما جعل منه رجلا "غير معقول" في قراراته واستهانته بأي عقل يتعامل مع تلك القرارات.. وقبلهما كان هناك "هتلر" الذي كان يعتقد بسهولة امتلاك الكرة الأرضية.