كم هو صعب أن تتغيّر حينما تكون في أقصى درجات التغيير الحقيقي الذي ينسيك كيف تتغيّر.. كيف تتحول؛ لأنك منذ زمن وأنت تعريك الأيام وتحتفظ بك في المكان الأكثر سلبا للإرادة.. حينما ترغب أن تتغيّر، أن تتحول ويحدث الاختراع العظيم الذي اسمه «الانزلاق من المكان»؛ لتصبح قلبا آخر بوجه إنسان حتى إن كان ذلك الإنسان بنصف جسد.. كم يكون التغيّر صعباً حينما يرتبط بالمقربين لنا في العالم، حينما تصر على أن لا تكون في الوقت الذي يتآمر الكون على أن تكون فأي وجع هو قرار التغيّر؟ وأي خوف يسكنك لأنك تطلب التحول الذي لا يحدث بسهولة؛ لأنك «للتو» ولدت من جديد مع كائن صغير يهرول كثيراً بداخلك، ولا يكف أبداً عن الطيش وعن القفز وعن اللعب بكل محتوى قلبك؛ حتى الخواطر والهواجس والسهر والتوق والحرمان والهبل والتوازن والفقد والفرح والانجراف والاستسلام يعبث بهم جميعاً؛ ليبعثرهم على منضدتك، وفوق مقعد الحنين، وعند ناحية المشاعر المرتبكة، وداخل أعمق نقطة في الخوف والبرد.. طفل لا يكف أبداً على تغيرك حينما ترغب في التغيّر، ولكن ليس تجاه البورصة التي تفركها بيديك لتستعيد توازنك، بل في التغيّر الذي ينجرف صوب الشروق الذي يمتد نحو نفق الإمكانات المستحيلة؛ ليدخل مع ثقوب الأماني الوردية التي لا نملك إلاّ أن نغني لها. كائن بداخلنا أي طفل بداخلنا يولد قبل أن يمر بمرحلة الحبو ليدفعنا صوب الأشياء الجميلة التي لا نستطيع أبداً أن نتغيّر عليها ونبقى مأسورين بها، مبهورين بكل اللمعان الذي يشع منها.. كم يصعب أن نتخذ قرار التغيّر حينما نجد أن الوقت الملائم قد حان لاتخاذه والإصرار عليه! كم هو موجع أن تتغيّر حينما لا بد أن تثبت في أكثر المسافات الحقيقية في حياتك، في أكثر الأمواج تلاطماً وإبحاراً نحو العمق؛ لتصل إلى الحقيقة الكامنة بداخلك أن في الهروب مسألة «حكم» وميزانا ينجرف صوب ما يمكن أن يثقل كفته فيرجحها على التأرجح. وجه العلاقات وتقبل العلاقات الإنسانية في حياتنا كسيل ينبت الأعشاب قريباً من النبع.. تسعدنا وتبكينا، تأخذ منا وتمنحنا.. تحتجزنا عند حجرها لنعود إليها صغاراً مترفين بكامل الوعود التي تعلمناها في الصف المدرسي.. حينما كان اللوح الخشبي يعج بالكثير من الأرقام الحسابية التي تصل إلى نتيجة حقيقية أن الواحد مع الواحد يساوي تماماً الاثنين.. تُغيّرنا علاقاتنا الإنسانية كثيراً نكبر من خلالها ونشيخ بها ونظل شغوفين للعودة لها كلما أسرتنا الذاكرة المثقوبة التي يخر منها كل شيء سوى أيام مضت وتعود متى رغبت.. تخلفنا خلفها كجريدة مهملة عند مقعد الحديقة وحينما تتعمد ملاعبة مشاعرنا تنقض علينا بشراسة لتشعل عود ثقاب الأيام «الحلوة» فنعود وقد كنا ظننا بأننا تغيرنا.. فهل حقاً نحن تغيرنا؟ هل حقاً نملك قرار التغيّر؟ أم أن الأيام -دائماً- كفيلة بتبديل ثياب الرؤية للأشياء؟ ومتى -أي الأيام- أحبت أن تقودنا إلى محطات أخرى في الحياة تسهم في استعادتنا ثم معاودة تشكيلنا كهياكل تنحت ثم تقع لتنكسر، ثم يعاد نحتها من جديد دون أن يمل نحاتها من تلك المحاولات المريضة. معادلة الحب ويبقى الحب من أكثر الأشياء إعجازاً في الوجود.. حينما يدخل حلبة التغيّر ويغضب من كل ذلك العصف الكبير لكنه يهدأ حينما يكتشف بأنه أقوى من التغيّر أقوى من أن يغمض عينيه صاحبه ويتمتم «أنا نسيت.. أنا تغيّرت» ويجرف بداخله كل ما يمكن أن يكون قد أسماه الوفاء؛ ليكتشف أنه مازال يعاني من قرارات للتغيّر لم تكتمل بعد.. لم تنضج لأنها ببساطة مازالت «تحب»، وترى الأمور كما لو كانت قد حدثت قبل ساعات.. تلك الساعات التي في تحركها توقظ بداخلنا الخسارات الكبيرة بقدر يصطحبك إلى فوهة الممر الطويل الذي لا يطيق أن يتركك حتى تكبر قليلاً فوق التجربة، وتصبح أكثر صلابة من ذي قبل. إن ما يمكن أن نسميه تغيّراً.. لا يمكن أن يكون سوى عقاب نمارسه على ذواتنا لحبس أنفاسنا -خوفاً- من أن يلحظها أحد.. لكننا في الحقيقة موجوعون بتغيرنا، مريضون بما أسميناه «تحولاً أو جرأة وتمرداً على الواقع.. نبقى مسجونين -بقرار من أنفسنا- بداخل صندوق الصمت الذي نرفض جداً أن يكتشفه أحد حتى ممن يعنينا في الحياة؛ لأننا نخشى أن نخسرهم بوجع تغيّرنا الذي حدث فعلاً دون أن نتوقع بأن يأتي، حتماً حينما تنكسر الأشياء الباهظة الثمن بداخلنا. إننا نتغيّر.. حينما نخشى أن نكره من نحبهم في الحياة.. حينما نظل طويلاً تحت المطر نرقب حضورهم ولكنهم لا يأتون أبداً.. حينما ننشغل بأحلامنا ونكتشف بأنهم مشغولون بواقعهم المر.. حينما تصغر أجسادنا لنتحول إلى أطفالٍ تريد أن تعبث بهبلها في الوقت الذي يكبرون -هم-؛ لأنهم لا يعرفون كثيراً كيف هو شكل الجنون.. حينما نتحول إلى أجساد مأسورين بقيد من الوفاء لمن هو أقل وفاء.. حينما نكتشف بأننا وصلنا إلى أعمق مراحل العمق وأن القشور مازال البعض يتسلقها.. حينما نمتلك القلب الذي يعرف كيف يعطي أمام من لا يعرف سوى أن يأخذ.. حينما نتلاشى بحزننا الذي لا يفهمه الكثيرون.. حينما نشعر أننا -كثيراً- ضعفنا بتوق يجر معه عالم من الخيبات والعواصف التي اقتلعت معها الورد الذي سقيناه من روحنا. متى لا نتغيّر؟ إننا لا نتغيّر.. حينما نراهم قريباً منّا.. حينما نبقى نستعيد الأيام التي لونت أطرافنا بالطيش؛ لتعيد في كل مرة تثبت بأنها موجودة حتى إن تخفت قليلاً.. إننا لا نتغيّر حينما يصدق الذين وثقنا بهم، حينما نتأكد أن القلوب التي قدّمنا الكثير من أجلها تحبنا كثيراً.. تحبنا بذلك القدر الذي تغيّرت حياتها لأننا بداخلها.. إننا لا نتغيّر حينما نلحظ في كل نهاية الطريق ضوء خافت يشتعل كلما اقتربنا منه، حينما تثبت لنا المواقف بأننا موجودون.. موجودون في الذاكرة.. في القلب.. في الأمام وحتى حينما نلتفت للخلف.. بأننا نحن الأهم.. وضمن قائمة المهم، وحينما يكون للعتب ذات شكل الحب، وحينما يكون الانزواء له ذات رائحة الاشتهاء، وحينما يكون للصمت ذات مفعول الكلام.لنبقى موجودين! لا تتغيّر..؛ لأنك الثابت الذي لا بد أن لا يتغيّر.. الذي يقود السحب نحو غرف الروح فتسقى بمطرها، الذي لا يكذب أبداً حتى حينما يعتاد أن يكذب الآخرون.. الذي يمشي مقبلاً نحو الاختلاف.. الاختلاف الفعلي لكل ما يمكن أن يحل بهذا العالم ولا يمكن له أن ينتهي.. لا تتغيّر؛ لأنك جزء من هذا الحدث الكبير الذي يغيّر منعطف القلب ليبقيه حياً.. لا تتغيّر لأنك -فقط- من تعرف كيف من الممكن أن يكون شكل الخذلان!.. كيف كان وكيف يمكن أن يكون.. لا تتغيّر حتى تزال الأمور بيضاء كما يعرفها الأنقياء.. حتى لا يصبح مصير الخير إلى الشر.. حتى لا تنتهي كل الحكايات التي تشوقنا نحو الفرح.. لا تتغيّر حتى لا نفقد ثقتنا بكل شيء.. لا تتغيّر حتى نبقى أحياء نتنفس حينما نتأكد بأن هناك من لم يتغير.. من بقي مخلصاً، ثابتاً حينما انجرف الآخرون.. لا تتغيّر ليكمل الكون مساره في العدل؛ لنبقى بشرا بقلوب كاملة مهما كانت الصعوبات.. لا تتغيّر لنبقى سعداء وموجودين. لا يمنحنا التغيّر شكلاً آخر لملامحنا.. لتقاسيم أرواحنا.. لكنه يضعنا عند المحك والاختبار الكبير لمدى قدرتنا على أكثر القرارات توحشاً وشراسة وانقضاضاً بداخلنا.. نحن لا نتغيّر على من يعني لنا في الحياة حتى نعاقبه.. بل إننا نتغيّر لأننا نربي أنفسنا على قبول الحقيقة حتى إن كانت موجعة، حتى إن سرقت منا أثمن ما يمكن أن يملكه المرء في الوجود «الحب».. نتألم فيزداد احتدام القلق والحرمان فنكبر بهمومنا ونغدو أشباه وجوه لقلب مازال يحن لشكله القديم.. نتغيّر؛ لأنه من غير العدل -أحياناً- أن لا نتغيّر! الوجوه التي تتغير على من تحب لن تجد قلوباً ترحب بها الحب الصادق بين الزوجين لا تغيّره السنون لحظة ما تتغيّر على من تحب لا تصدمه بقرار الفراق