كثر التلاوم بيننا، حتى أفقدنا التركيز في أحداث مهمة، ومعالجتها بالطريقة الحكيمة الناجعة لتقضي على أس المشكلة التي تلاومنا فيها ومن أجلها. وفي الحدث الأهم في هذه الأيام وهو الفيلم المسيء إلى الذات النبوية الشريفة، يبدو ذلك واضحا لكل ذي عينين، فإن الحدث الرئيس هو قضية الإساءة، بيد أن قومي أشغلهم التلاوم والحديث عن رد الفعل عن الفعل نفسه! وظهر في ثنايا الحدث عجز الأمة عن الفعل الإيجابي المؤثر، فإن الحدث نفسه كثر في صور متغايرة، أعني الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى دينه، بل وإلى الذات الإلهية أيضا، حتى وصل الأمر إلى أن يكون المسيء من بني جلدتنا، ومن قومنا، وربما كان قريبا منا! وعلى مدى السنوات التي مضت بقي المسلمون يعانون ردود الفعل بعد كل حدث وآخر، فمنهم من يلوم الجاهلين، ومنهم من يجعل اللوم على كل أحد سواه، ومنهم من تأخذه الحمية حتى ينفلت زمامه، وكانت النتيجة صفرا مكعبا في كل حالة. وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه{ فلن ألوم أحدا في مقالي هذا، ولكني أردت فقط أن أبين أن التلاوم بيننا قد ضُيّع حقُنا في ثناياه، وهو من أهم أسباب استمرار الإساءة تلو الإساءة. فليكن إذن بيان العلاج لهذه المآسي المتتابعة، حتى يجف المستنقع الذي تستمد منه طاقتها. وإذ لم يكن هذا ممكنا في زمان النبوة، حيث جوبه صلى الله عليه وسلم بسيل من الهجمات الإعلامية، التي كانت مؤثرة في ذلك الزمان، ومن أهمها القصائد الشعرية، والخطب الرنانة، وما كان يفعله عمه أبو لهب في المشي خلفه في كل محفل يذهب إليه، صلى الله عليه وآله وسلم، ليحذر الناس من الاستماع إليه، ويصفه بالجنون، فتحمل عبء التشويه لسمعته، والتنفير من كلامه. ولم يكتف المعاندون المبغضون له ولدينه بمجرد الكلام بل جاوزوه إلى الفعل، حتى وضعوا سلا الجزور على ظهره وهو يصلي في البيت الحرام، وقصص إيذائهم له تغص بها سيرته، خاصة في الفترة المكية، وما قصته في الطائف بغائبة عن ذهن أحد من المسلمين، بل حتى وهو القائد والموجه في المدينة بين أنصاره، وأحبابه، لم يُكَف الأذى عنه، فقد أوذي من المنافقين في نفسه وفي دعوته، وفي أهله، وحادثة الإفك ماثلة في ذهن كل مسلم، وكذا قصة الأعز والأذل التي تتلى على المصلين في محافلهم في الجمع، والأعياد. فمحاولة النيل من شخصه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ليست وليدة اليوم، ولن تقف عند حد؛ لأن الدنيا مبنية على الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين النور والظلمة، ولا شك أن سٌرج الهداية إنما تستمد نورها منه صلى الله عليه وسلم، إذ هو حامل مشعلها، وهاديها، فما بقيت الشعلة تتقد فالأتباع في ازدياد، وبالتالي يصعب على أهل الغواية ممارسة غوايتهم، ويصعب على الضُّلّال أن يجلبوا الأتباع، وإبليس ليس له هم سوى لأغوينهم أجمعين{. فيجب ألا يغيب عن أذهاننا أن الداعية الذي آمنا به، واتبعناه، وأحببناه، وافتديناه بكل شيء في حياتنا، لم يكن قومه كلهم أبا بكر وعمر، بل في ذات الوقت كان هناك أبو جهل، وعتبة، وأمية، والوليد، وعقبة، وكلهم بذلوا أقصى ما يستطيعون، وأنفقوا أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، وكانوا يبغضونه بقدر محبة أصحابه له. ولكل قوم وارث، وسيبقى ورثتهم يحملون الهم الذي كانوا يحملون، ففي كل زمان سنجد أبا لهب في هيئة الإعلام المنافق، الذي يشوه سمعته، وينفر من دعوته، وسنرى أبا جهل في كل جهد يستخدم القوة والبلاغة والحكم؛ ليصد عن سبيل الله، وسنرى الوليد بن المغيرة يتمثل في العداء الفكري والثقافي، إذ كان أعلم الناس بنثر العرب وشعرها، وابن معيط سترونه في كل جاهل حقود، لا يتوانى أن يتفل في وجهه الشريف؛ ليثبت أنه ليس على دينه، فتسجل الآيات فعلته المشينة، دون ذكرها، وترسم بوضوح ندامته على تلك الفعلة حيث لا ينفع الندم ويوم يعض الظالم على يديه، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً{.. الآيات. لقد عالج القرآن تلك القضايا، بتوجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالإعراض عنهم، وأن لا يحزنه قولهم، وأن يتفرغ لدعوته، وعبادته، فليتنا نفعل ذلك، فننطلق بكل همة لنشر دعوته، وبيان سيرته، وتحكيم شريعته، ولا يعني هذا أن لا نغضب، ولا نحزن، ولكن أن يكون رد الفعل الممكن هو الثبات على الحق والمنهج الذي جاء به صلوات ربي وسلامه عليه، ففي سياق قوله إنا كفيناك المستهزئين{ جاء الختام بقوله ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين{. وصدق القائل: ولو أن كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار.. هذا ما قد يمكن أن يقال في حال العجز عن نصرته حساً، بإقامة حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن أساء إلى جنابه الشريف. وقد كان أشد ما لقي صلى الله عليه وسلم من قومه الأذى بالقول، حتى كان أشد عليه مما لقيه يوم أحد، من قتل عمه حمزة، وسبعين من أصحابه، وما ناله فيه من أذى وجراح، لأن نفس الكريم الأبية تتأذى بالقول والسب والشتم أشد مما تتأذى به من الطعن والضرب، ولهذا فإنه عليه الصلاة والسلام عفا عن كل من تعرض لقتله أو آذاه في جسده، وأهدر دم كل من تعرض له وشتمه.