لا أحد يستطيع أن يهين الرسول، فالآية "إنا كفيناك المستهزئين" آية قطعية الدلالة والثبوت لا تحتمل أي تأويل يخرج بها عن إطارها السلمي التام، بل وانحصار الحق "حق كفاية الدفاع" في الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يصر الغوغاء على التدخل في حق خص الله به نفسه باسم الدفاع عن الرسول الكريم، وباندفاع فوضوي إرهابي يغضب الله ورسوله، الرسول الذي لم يؤثر عنه أن رد الاعتبار لنفسه أو انتقم لها من أي شخص، والسؤال هل نطبق حقيقة توجيه القرآن - كوسم لا كرسم - أمام أنفسنا أولاً قبل نقله لغيرنا، ونحن نخالف روحه؟ أم أننا ندعي دفاعنا عن جناب الرسول ونخفي ما خلفه من أحقاد الشعور بالدونية والتخلف والرجعية في ردود فعل شوهاء لا يقرها إله ولا إنسان، ولا ديانة ولا شرعة، ولا منهاج ولا قانون، لا في أرض ولا فوق سماء. لطالما كانت الدعوة إلى الإرهاب والتلاعب بقيمة الحياة ورمي الناس على مذبحة الحق المطلق الممارس بالباطل تجاه أي مختلف ممارسات متكررة تتم باسم الله أو الدين أو الرسول أو الدفاع عنهم، ولطالما تم تغييب الوعي حتى أُوصلت الأخلاق إلى فوضى يتذرع بها كل متطرف للانغماس في محاضن الإرهاب. الفيلم المسيء لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقره عاقل أو يميل لبغيه طالما عرف غاية منتجيه لإذكاء نار الأحقاد في ذكرى 11 سبتمبر، يوم هو لكل مغيّب وعي إشارة لا يمكن تجاهلها وتحديد يصحّي الغافل من غيبوبته، ولكن لا تسأل عن الغوغاء عندما يعميهم الاندفاع الأهوج فيقودهم للإسراف الإرهابي هجوماً وتخريباً ودماراً وقتلاً، ليتحول الغضب كمكمل للإساءة، بدل أن يسعى لنفي الإساءة، لقد أكمل المسلمون الإساءة للرسول بغضب أعمى فهاجموا السفارات وقتلوا وسرقوا وأتلفوا الأرواح والممتلكات، ليذكّروا الأمريكيين إن الإرهابيين حول العالم لا دين يردعهم ولا ضمير! وبالبحث خلف من حول الغضب إلى عنف وسرقة وقتل سنجد أهدافاً ليس من بينها الغيرة على الرسول أبداً.. عُرض الفيلم التافه في هوليود قبل ثلاثة أشهر، ولما كان خالياً من المحتوى الأخلاقي والفني فقد ذهب طي النسيان، فما كان من منتجه إلا أن سوق له بحيلة تكشفت بها معرفته بالعقلية والخلفية الفكرية لنا، وباستغلال مدروس لردود أفعالنا الفاضحة والمخزية، كان يمكن إذاً ترك هذا الفيلم يعبر عن أزمة منتجيه لو تم تجاهله وبقي انتشاره محصوراً ضمن مجموعة صغيرة من الاسرائيليين والموتورين. أعداء الفيلم الحقير ساعدوا أصحابه كما لا يستطيع أن يفعل أحقر أعداء المسلمين، التعامل مع الإساءة له أكثر إساءة، وما هو إلا احتكار الجهل والتطرف وسوء الفهم والتصرف يجعلنا نؤكد أننا أعداء أنفسنا!! من المفارقات المحزنة أن السفير الأمريكي المغدور في بنغازي كان صديقا للثورة الليبية وخبيرا منصفا في الشؤون العربية، له تسجيل يدافع فيه عن المسلمين، وينفي صفة الإرهاب عنهم، فكان جزاء الإحسان القتل!! قتل الناس، والسفراء وهم رسل مستأمنون والاعتداء عليهم همجية وجريمة مغلظة في كل الشرائع، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يرضى أن يكون أتباعه إرهابيين يقتلون المستأمنين، أو لصوصا يسرقون المعاهدين، أو منافقين يخرقون المعاهدات والمواثيق، أو مجرمين يدمرون الممتلكات ويسعون في الأرض فسادا. إنها مشكلة وعي ونحن في كل مرة نستدرج في وعينا نفقد الوعي فنعطي فكرة مغلوطة عن الإسلام وكأنه دين الغوغائية والهمجية، استغل ذلك المغمورون لنشر ما هو تافه من رسوم وغيرها باستغلال مدروس لردود أفعالنا المخزية والضعيفة، وبجولة سريعة على مواقع الإنترنت تكشف كميات كبيرة من المواد التي تتناول كل الأديان من دون استثناء، بالسخرية والتبخيس. إن تحويل الغضب إلى طاقة للإصلاح أمر غاية في الإنسانية والرقي والمدنية، "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" هذه الآية تترجم نقل القيم إلى واقع لكن الأمر يتطلب سحب صورة الإسلام من برواز الشعارات إلى أرض الواقع المحتدم بالصراعات، فالنصرة لا تكون بالغوغائية والتشنجات والغضب الأعمى بل بالاعتراض السلمي المتحضر، والهجمات الموجهة لقناعات قيمية أو عقائدية إيمانية تُحدث في الوعي المتحضر قيمة للمراجعة والنظر والنقد والتفحص، وتعطي الفرصة لقياس مدى ثبات الإيمان من تخلخله، لكنها مع الغوغاء لها شأن آخر. كتب أحدهم يطالب بمقاطعة المنتجات الأمريكية، فرد آخر المقاطعة التي تطالب بها تقوم بها من جهاز الآي باد الذي صنعوه هم، اكسر جهازك أولاً.. إنها ضريبة غياب التفكير والتغييب المتعمد للوعي.. مشكلتنا مشكلة ثقافية قيمية بالدرجة الأولى، تطبيق قيم الإسلام لا يتم بالشعارات ولا المظاهرات بل تعديل واقعنا الحي، ومعالجة ما نعيشه كمسلمين من نزاعات داخلية وإرهاب، والالتفات للخلل في المنظومة الأخلاقية التي يتم من خلالها التدليس على العقول، لتعيش إما في تناقض أو اتباع أعمى يعمي بصيرتها، إن صناع الكراهية والتطرف والغوغائية ما كان لهم النجاح لو لم يجدوا مدخلا مزدوجاً بين القيم والتصرفات، بين الشعار والمعتقد، بين الإيمان والتصرف، بين القول والعمل. التحرك الوحشي ضد السفارات الغربية تركز من بلدان الربيع العربي، فهل هذه نتائج أولية للمبادئ الديمقراطية التي طالبت بها الشعوب وثاروا لأجلها في ربيعهم؟! ربما البحث عن جواب أصعب من الجواب نفسه، أما جواب السؤال حول من المستفيد من ذلك: فبالتأكيد ليس عملية التحول للديمقراطية، فهذه الهجمات تعد أكثر من كونها هجمات على سفارات غربية، إنها هجمات على الديمقراطيات الشابة. وانتقال استبدادي كما عبرت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون: "لا نريد لبلدان الربيع العربي أن تنتقل من استبداد الطغاة إلى استبداد الغوغاء" التطرف يعرّض عملية التواصل بين الشعوب والثقافات التي نادت بها الأديان السماوية والقيم الإنسانية إلى الخطر ويفتح أبواب العنف والإرهاب والفوضى، والاعتراض الحضاري هو في السعي لاتخاذ إجراءات ضد منتجي الفيلم في إطار القوانين والمواثيق الدولية التي تجرم الأفعال التي من شأنها إثارة الفتن على أساس العرق أو اللون أو الدين، والمؤسسة لثقافة الكراهية. نعم هناك تنام في التطرف اليميني في الغرب لكن الحل في تحقيق صورة للاعتراض راقية تعكس قيم الإسلام الحقيقية، وتفحص الواقع وتعديل العلاقات بيننا كمسلمين أولاً وبيننا وبين الشعوب الأخرى، فالكراهية والفتنة والعداء بين الشعوب من مختلف الأديان يدخل ضمن المخططات المعادية للسلام والوئام والتي تعمل على خلق الفجوات والمشاكل بين الشعوب. فالغوغاء لا يملكون من الهجوم الإرهابي سوى تصوير المسلم غير الواثق بنفسه، المسلم المندفع، المسلم الذي يرى أن العنف هو الحل الوحيد الذي يواجه به ضعفه القيمي والحقوقي والأخلاقي، وهو أمر طالما ارتبط بصراعات التمدن.. دعا رجل الدين البارز الشيخ عبدالمجيد الزنداني رئيس جامعة الإيمان إلى يوم غضب من أجل الدفاع عن الرسول الكريم" وطبعا كلمة غضب إيحاء عنف وتطرف واضحين، وليس الانتقال من رجل الدين إلى المثقف الموهوم إلا مسافة لا تبتعد إلا لتقترب في آن حول المنطلقات والرؤى: فأحد المثقفين كتب مقالاً عن الفيلم المسيء منطلقاً من فكر المؤامرة الغارق في الوهم، تحدث فيه عن قوة الإعلام الغربية في التأثير على العقول والأفكار بصورة احترافية، ومصوراً تحكم الغرب في سيكولوجية الوعي الجماهيري لتحقيق المزيد من العنف! وترتيب الخطط المستقبلية وتمرير المشاريع والاستراتيجيات البعيدة، ثم يذهب لقراءة تنأى عمن قام بالحدث "الفيلم"، إلى اتهام مبطن للحكومة الأمريكية، إما بخلق الذرائع أو استثمار لها، وربط ذلك بأحداث سياسية ليس لها مع الفيلم رابط من قريب أو بعيد! يقول "فالصورة الإعلامية، والإثارة النفسية للخصم، ومحاولة توجيه الشعور أمر لم يعد خافياً"، والسؤال: وأين عقول المتلقين؟!! وبعيدا عن الخلط بين رسالة الإعلام ودور الحكومة الأمريكية في مقاله يبرز سؤال آخر: من المخطئ هنا ؟! المستثمر لأخطاء التفكير وضعف الوعي، أم قصر نظر وسوء وعي وثقافة الخصم؟! أما ربطه توجيه التهم بالأهداف فغاية في السذاجة وإثارة الضحك "إن المرحلة المقبلة مرشحة أكثر لإحداث مزيد من الصراع الحضاري من خلال استثارة النكاية بالمقدسات الإسلامية، والهدف من ذلك إعادة التوازن السكاني والاجتماعي للحياة الغربية في ظل تزايد الوجود الإسلامي في الغرب والذي يهدد الغرب ب (الفناء الحضاري)، فلقد فتح الغرب أبوابه للهجرة الإسلامية من منطلقات الحرية والعدالة والديمقراطية، وواجه في ذلك اختلالاً سكانياً يفضي إلى قلب المعادلة الحضارية، وليكون فتحاً ناعماً للمسلمين في ديار الغرب بلا حروب، الأمر الذي أقلق مبشريهم وساستهم الذين يرون في هذا غزواً مكشوفاً" أظنه هنا يدمج الألم بالأمل في قلب المعادلة الحضارية ومفهوم الفناء الحضاري، ويتوهم النتيجة النهائية المتوهمة؛ "الفتح الناعم للمسلمين"؟!! مغفلاً السبب الحقيقي وراء الهجرة للغرب وهو؛ البحث عن ثقافة حرة متسامحة. وإمعانا في التعدي؛ ذكر نماذج للحرية وثقافة التسامح في الغرب توضح أن عدد المساجد يفوق عدد الكنائس في بعض البلدان، لكنه يعد ذلك "مؤشر على الوضع العام في أوروبا والعالم الغربي تجاه الموت للحضارة الأم واستبدالها بحضارة مهاجرة" فأي ثقافة أم بأي تفكير أتى هذا التعليل!! وبواسطة الدفاع بطريقة إثبات التهمة، يعرض عن ردود الفعل الغوغائية ويراها مجرد صورة نمطية أراد الغرب ترسيخها عن المسلمين؟ وكأنهم كذبوا بها أو اختلقوها! ومثقف آخر يحاكم تصريح هيلاري كلينتون حول حرية التعبير رغم إعلانها رفض محتوى الفيلم، وكأن الفيلم من إنتاج الحكومة الأمريكية أو دستورها! هذا الهجوم المدوي بصوت الباطل هو ما يضر الجماهير وهو المصيبة التي رسخها الادعاء الكاذب والصورة المثال التي لا تقبل النقد أو التصحيح أو حتى مجرد التفكير وإعادة النظر، فالهم النقدي المغفل يحمله ضمير المثقف الحقيقي بغربته الصادقة. ختاماً: يمكننا أن نؤكد أن تمثيل أي احتجاج والدفاع عن أي قضية بصورة حضارية هو مطلب الشعوب المتنورة بقيمة الحرية.