في قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه -، أنه قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهوه أن يجتمع به، أو يسمع كلامه ! قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً، ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه. قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت منه قريبا، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاماً حسناً، قال: فقلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب، شاعر، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته. قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى بيته، فدخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا الذي قالوا، قال: فوالله ما برحوا بي، يخوفونني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك! ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولاً حسناً، فأعرض عليّ أمرك، قال: فعرض عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام ، وتلا عليّ القرآن ، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه ! قال : فأسلمت، وشهدت شهادة الحق . من أهم ما نستخلصه من هذه القصة أن لا تسلّم عقلك وفكرك لأشراف قومك، يقودونه، ويفكرون بالنيابة عنك، ويحددون لك الحسن من القبيح، فتسير تبعاً لهم منقاداً إلى اختيارهم، فتبقى أسيراً لهم . وهذا حتماً لا يعني الانفكاك التام عن الفكر العام، والثورة عليه ونقضه بالكلية، بل يعني أن تستعمل عقلك فيما خلق له، وهو التفكير، والتدبر، والتأمل، والنظر، حتى تميز الغث من السمين، فتقلّب الأدلة، وتنظر في المعطيات، وتسبر غور الأفكار، فيكون اتباعك قناعة لا تقليداً . وهذا المعنى هو ما جاءت به نصوص القرآن الكريم الذي تليت علينا آياته من أولها إلى آخرها في شهر رمضان المنصرم، وتلوناها بألسنتنا، لكن أكثرها مرّ على عقولنا أسيراً للفكر المهيمن، منقاداً للفهم المعتاد، الذي يحرص على حيازة الحق واحتكاره، ويكفي من تلك الآيات قوله جل في علاه (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) والقول هنا قول أصحاب النار، الذين انقادوا إلى أشرافهم وكبرائهم فأسلموهم عقولهم، ولم يستطيعوا كسر قيودها، ولا الخروج من زنازينها، فكانت العاقبة الأليمة حين (تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب). ومما لا ريب فيه أن اعتذارهم هذا مردود عليهم، فهم يريدون التنصل من تبعة الضلال الذي تاهوا فيه بأنهم غرر بهم، وخدعوا بزيف أقوال السادة والكبراء، والرد جاء في الآية بقولهم (إنا أطعنا) فهم أقروا بالطاعة لهم، والاستماع إليهم، وتسليم عقولهم لهم، فلنا أن نسألهم: لمَ أطعتموهم ؟ لماذا لم تفتحوا عقولكم للتفكير والسؤال ؟ لماذا جعلتم من أنفسكم دهماء وعامة، لم تتعلموا ، ولم تقرؤوا ، ولم تبحثوا، ولم تناقشوا، ولم تتساءلوا ؟ لماذا استسلمتم لمعسول الكلام ، وسرتم على وقع الأقدام، وعطلتم منافذ التفكير والأفهام ؟ إن قصة الطفيل - رضي الله - عنه تذكرنا بحال كثيرين من قومنا يسلمون قيادهم إلى غيرهم ، فينفرون من كل ما حذروهم من سماعه أو قراءته، بل هم يعيبون من عابوه، هكذا ولم يسمعوا منه شيئا ، وقد يرمي أحدهم شخصا بالعلمانية والضلال، ولم يقرأ له مقالا، أو كتابا، أو رواية، أو يسمع له خطبة ، أو حديثا، أو برنامجا ، فقط لأن فلاناً ممن يثق هو بهم حذر منه، وحكم عليه ! لو استمع الطفيل - رضي الله عنه -لتهويل قومه ومنعهم له من الاصغاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكان من أهل النار . لقد حلقت بي آيات القرآن التي تلوتها، وسمعتها في رمضان في أفق عال من فضاء حرية الفكر، والنظر ، والتأمل، الحرية التي أخرجتها الآيات من جب التحكم، وبئر الاستبداد، وعلمتها النفور من السيطرة، لأن العبودية الحقة لله وحده، والاستسلام لا يكون إلا لقوله جل وعلا، أو قول رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم -. الآيات التي على رفض استبداد السادة والكبراء، وسعيهم للسيطرة على العقول كي لا تنطلق ولا تفكر، إلا بإذن منها، وحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها هي لأنفسها، وتغطيها كثيرا بغطاء المصالح العامة والخوف من الفساد، والحرص على الدين تماما مثل قول فرعون (إني أخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد)! أما مر بنا في قصة موسى عليه السلام قول فرعون للسحرة بعد إيمانهم بموسى وهارون (آمنتم به قبل أن آذن لكم) فهو يريد أن لا يؤمن الناس إلا بإذن منه، فهل بعد هذا من دليل على حرص الكبراء والسادة على السيطرة على العقول والقلوب، حتى لا تؤمن ولا تفكر إلا بعد إذنها، وحسب قواعدها ! إذا تأملت هذا علمت يقينا أن الله تعالى لم يكرر علينا قصة فرعون مع موسى عليه السلام عبثا، وأنها تلتقي مع قصة الطفيل -رضي الله عنه -في مفترق طرق البحث عن الحق، دون خريطة تتدخل سطوة السادة والكبراء في تحديد مسارها.