(اؤمن بالإشارات التي تأتينا برسائل تغير حياتنا، بطول الطريق بقلب مدريد ظهر لي ذلك الإعلان الذي يعلن عن قدوم (ألوان العربية السعودية (Colors of Arabia Saduia أيقظت بقلبي ذكرى تاريخنا المشترك مع العرب في الأندلس وافتتاني بالشرق وتوقاً للصحراء وحضارتها العريقة. قررت وأصدقائي ألا نفوت هذا المعرض، والآن أشعر بأنني محظوظ للاطلاع على هذا الفن السعودي، وبالذات فن المرأة التشكيلي المعاصر، إنه فن معاصر بتميز وقادم من جذور عريقة، هذه تركيبة يفتقدها الغرب الآن في فنونه. أدخلنا هذا المهرجان مناطق لم نزرها. لم يسبق لنا وتصورنا المرأة السعودية في دور الفنان وبهذه المعاصرة، المرأة السعودية بقيت في ذهننا كائناً مهمشاً، هذا المعرض أثبت كم نحن واهمون وأن هذا النتاج الابداعي لم يتم فجأة بل جاء نتيجة لتراكم معرفي وعمل دائب. نشكر لكم تصحيح مفهومنا عنكم كبشر فاعلين) كان هذا تعليق الفنان الشاب (Alejandro Compoy) الذي يعرض أعماله بمتحف سلامانكا. كان ذلك تقريباً لسان حال الجمهور الاسباني الذي تدفق على المعرض الذي أقامته السفارة السعودية بمدريد بقيادة الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز سفير خادم الحرمين الشريفين بأسبانيا، جمهور (يتراوح ما بين الثلاثة للأربعة آلاف يومياً على مدار أيام المعرض) ضحى الجمهور الغفير بفترة القيلولة الاسبانية الشهيرة (السيستا) ليحضر بفضوله ويتجول في المعرض الذي افتتحه الملك الاسباني خوان كارلوس وعقيلته الملكة صوفيا بحضور حشد من السلك الدبلوماسي والوزراء والفنانين والنقاد أبرزهم برناردينو ليون وكيل الدولة للشؤون الخارجية، وذلك في (Palacio de Congresos de Madrid) قصر المعارض بقلب العاصمة الاسبانية. تفاجئك واجهة قصر المعارض التي رسمت عليها هذه اللوحة الانطباعية المأخوذة من الزخارف الهندسية الشعبية السعودية. جنباً إلى جنب مع لوحة (جوان ميرو) المرسومة على الواجهة. في الداخل وعلى الجدار الأيسر تشهق قبور النبطيين القادمة من الزمن العتيق من مدائن صالح فترتفع وتسد الجدار، أما بيوت جدة القديمة برواشنها العريقة فترتفع شامخة على الجدار الأيمن للمدخل. تتالى صور وصوامع وأبراج نجران، مشاهد من اقليم الحجاز والسوق البدوي. ها هي المدينة المقدسة مكةوالمدينة، الكعبة وقبر الرسول عليه السلام مهيمنة على الداخلين. ثم تنتقل إلى الرياض والخبر ومضارب البدو لتجد نفسك أخيراً في صحراء الربع الخالي. إلى اليسار تبدأ مساحة خصصت للحرف اليدوية والتي تشرف عليها نساء محترفات، هنا يستعرض الزائر الثوب والعباءة القادمة من مناطق المملكة المختلفة. ها هي المصممة (أمينة الجاسم) بتصاميمها الحديثة المحافظة على أصالة القديم. تخرج هنا الملبوسات والاكسسوارات مرتدية الشماغ والمطرزات وأقمشة السدو. تنزل هذه الدرجات الخمس العريضة للمستوى الأرضي من القصر حيث أفردت كل المساحة الشاسعة للفن السعودي المعاصر، تشهق حين تفاجئك هذه الألوان والطاقة المتدفقة من صدر الصالة حيث لوحات الفنانة شادية عالم، تلفك المصطبات العسيرية بطاقتها المفعمة، وتأخذك حركتها الباطنية في دوامة لا تفيق منها إلا حين تقذفك في صحراء الفنانة الممتدة في لوحات مجردة إلا من مساحات تبحث فيها عن المطلق، فيلوح تارة السراب وتارة يتراءى الماء. (ابحث عن المطلق أيضاً في هذه الأربع لوحات من مجموعة عين جاه) فتسألها عن هذه اللوحة عن كائنات تقف في الأسود، فتقول: (هذه لوحة النصف الآخر، هذه هي المرأة السعودية كما يراها الغرب، مجرد وجود مهمش وموقوف في الأسود غير فاعل. انظر هذا الجزء الشفاف وهذا الاسم، إنها إحالة إلى تساؤل، ما النصف الآخر، ما الجزء الآخر من الحقيقة. ان تواجدي هنا وتواجد لوحاتي، وتواجد الإبداع النسائي الطاغي في هذا المهرجان هو النصف الآخر من الحقيقة، ان المرأة السعودية هي وجود فاعل وخلاق، ولم يكن اللباس أو الحجاب عائقاً في يوم من الايام. ابحث لك عن مسافة للتنفس خارج هذا الزخم فتجد السكينة في لوحات المصورة السعودية ريم الفيصل، فتأخذك روحانية الحج، وتستغرق وجدانك وتثير تلك الشخوص المجردة المستغرقة في العبادة أسئلة وجودية تلاحقك، تتابع طرحها على الفنانة التي تقف امام ذلك العالم الذي كان لها سبق تصويره بعدستها المبدعة، تقف ريم الفيصل بمروحتها الأسبانية تحاول ان تدخلك إلى عالم شكّل دائماً عالماً سحرياً عميقاً. هذا العالم تكمله لوحة (خطبة الجمعة) بالأخضر الذهبي والأبيض للفنانة شادية عالم، فتقسرك على العودة ثانية إلى داخل الصالة حيث صور الفنانة نهى آل غالب والتي فازت بجوائز مهمة في التصوير، فتتجول بين مشاهد مشرقة من العمارة والتراث الفني الحضاري للمملكة، تتوقف طويلاً امام هذا الحصان المكون من ابيات شعر عربي قديم يستدعي قصر الحمراء بزخارفه الكتابية، فتتواصل الحضارات ويستمر الحوار الذي برعت نهى آل غالب باستعادته بعدستها. تستطيع الآن ان تجلس على هذا المقعد المنسوج من السعف والتمتع بتلك العوالم، أو بإمكانك ارتقاء هذه الخشبة العريضة حيث ركن المكتبة السعودية، تصفحْ نسخاً من مطبوعات ومنشورات إعلامية ووثائقية وكتب فنية وادبية. هنا تجد كل كتب رجاء عالم الادبية والفنية، ويمكنك اجراء حوار مع الكاتبة التي تتواجد حيث لوحات أختها شادية. اصعدْ هذه السلالم إلى تلك الشرفة الفسيحة حيث تجلس النحاتة السعودية (حلوة عطيوي) بعباءتها الجميلة، تتحدث بخجل، هي المرة الأولى تغادر فيها المملكة لتشارك في معرض، حتى انه لم يكن لديها جواز سفر، واستصدرته لها السفارة على عجل. تشرح حلوة عن منحوتاتها الصخرية وتكويناتها الحجرية والرملية الطالعة من أرض الجزيرة، تحكي عن معاناتها مع النحت، تشير إلى الخدر الذي يلازم كتفها.، (التكوينات الصخرية) تشير إلى محفورة رأس السمكة التي ادخلتها في هذا التكوين البديع، تتنفس ذلك التاريخ المحفور في تلك الصخور المخلوطة بعرق هذه الفنانة ومعاناتها. تغادر إلى معرض الفنان (تركي الدوسري) تجذبك تكويناته المرحة كأسماك بحرية وطيور فضائية مبتكرة، تغادر الدوسري وبيوته البيضاء المصطفة في فضاء اللوحات من غير أطر، يصلك صوته يقول بفخر: (كتبوا في اوراقي أنني بيكاسو السعودية). اصعدْ هذه السلالم إلى دور ثالث حيث يستضيفك هذا الركن بالحلوى المصنعة محلياً. تذوق هذا التمر المغموس بالكراميل وهذا المحشو بالمكسرات وذلك المغطى بالسمسم، هنا مذاقات مختلفة للقهوة العربية التي تفوح بالهيل والقرنفل والزعفران، تستقبلك هاته النسوة بأزيائهن الشعبية يقترحن عليك تذوق هذا الحصى، تندهش وحين لا تتردد في أكل ذلك الحصى الملون تكتشف انه شوكولاته ملبسة بالسكر الملون. (أغرم بهذا الحصى كل الاطفال الاسبان) تقول المشرفة على هذا الركن. على يمين هذا الركن تنتشر النساء السعوديات يعرضن المشغولات والمطرزات والتصاميم والحلي والقطع التذكارية، وكلها مصنعة محلياً ويدوياً، هذا للمصممة السعودية نبيلة البسام وهذا لليلى نيازي، تتجول ليلى بحجابها وثيابها السعودية البديعة كالنحلة تشرح للزوار. تدفع هذا الباب إلى الخارج فتجد المساحة مفتوحة والمقام بوسطها مسرح مفتوح احتلته الفرقة الشعبية المكونة من 25 عضواً من راقصين وموسيقيين. تجري على خشبته قراءة اشعار وازجال شعبية، تناقلتها الاجيال ووصلت هنا لقلب مدريد. لا تتمالك نفسك، تهتز بدقات الطبول تدور مع الراقصين ترقص معهم العرضة النجدية والمزمار والسامري. انت محظوظ اذ تحضر هذه التجربة: قدمت الجامعة في مدريد طلباً للاشتراك في فقرة موسيقية مع الفرقة السعودية تحية لهذه المبادرة الحضارية. انت تعيش تجربة فريدة من نوعها: اختلطت الموسيقى الاسبانية مع اصوات الطبول السعودية مكونة حواراً اندمجت فيه الحضارات على اجمل ما يكون الاندماج. كفوف منقوشة بالحناء شاركت في ضرب الطبول رافقتها حناجر اندلسية. وشاركت هذه المرأة الجازانية القادمة للتو من قريتها في نقش الحناء للزوار واصطف امامها طابور طويل مفتون بنقوشها البدائية والمبتكرة. لم يكتمل العرض اليومي الا بكرم الضيافة العربية المعروف عن اهل الجزيرة العربية، حيث قدمت المأكولات الشعبية لكل منطقة من مناطق المملكة. تخلل المهرجان انشطة ثقافية شملت قراءة للكاتبة رجاء عالم من كتابها «فاطمة» الصادر باللغة الانجليزية عن جامعة سيراكيوس بنيويورك امريكا. وأتبعه حوار مفتوح مع طلبة الجامعة واهل الاهتمام ودور النشر. رجاء عالم كما جاء في المطبوعة الخاصة بالمعرض هي من اهم كاتبات الرواية المعاصرة العربية. اما الدكتور عبدالعزيز السبيل فكان حضوره عبر كتاب (Cuentos de Arabia). حرص الأمير سعود بن نايف بن تركي وزوجته الأميرة عبير بنت فيصل بن تركي، على التواجد اليومي بالمهرجان وحرصا على تفقد المشاركين وعلى تكامل العرض وإظهار المملكة بهذه الصورة المشرفة. حشدا كل الافكار والامكانات وتميزا بالجرأة في اظهار دور المرأة السعودية بشكل خاص، وشكلا تلاحماً بين القيادة والافراد، ولم تنس السفارة ختام تميزها ببادرة توزيع شهادات شكر وتقدير للمشاركين، وظهرت واضحة جهود الأميرة الجوهرة بنت فيصل بن تركي، بمطبوعاتها الفنية، والتي لا تفرغ جعبتها من الافكار لنشر الحِرَف وسعودة المنتجات الاستهلاكية وإخراج الفن للمستهلك، والقاء الضوء على التجارب الفنية للفنانين الناشئين. وفرت السفارة مترجمين لمساندة المشاركين وتذليل حاجز اللغة بين العارضين والجمهور والمهتمين، كما تواجدت وسائل الاعلام واصحاب دور العرض الفنية والنقاد والمهتمون مما أنجح هذا المهرجان والذي ترك بصمة حضارية لا تنمحي في ذهن الجمهور الاسباني الذي طالب بتمديد فترة العرض أو تكراره أو نقله بين المدن الاسبانية.