نعيش هذه الأيام والليالي ابتهاجاً للتوفيق بصيام شهر رمضان، وانتظاراً لأيام العيد نكمل بها فرحتنا بأداء الصوم وتبعات أيام وليالي شهدت التئام الأسر وتلاحم الأصدقاء وتكافل المجتمع، والقيام بواجبات الإنسان المسلم والسعي لتجسيد هذه الفضائل، وفي أيام العيد ولياليه نتفرغ لقضاء حاجات النفس من التواصل والمرحمة والترويح والمودة ومحاولة مغادرة مشاغل الدنيا لتجديد قنوات العلاقات وتعميقها، ونسيان الاحقاد والأضغان، وبدء حياة جديدة بعد التخلص من أعباء الأدران وأثقال الاهمال. قليل منا من يغادر رمضان بعد أداء فضائله إلى إمتاع النفس بلون آخر من المتعة فيفيض إلى متعة أخرى ذاتية، فالنفس راغبة إذا رغبتها، وإذا ترد إلى قليل تقنع، فيحرم أولئك أنفسهم من المتعة الجماعية التي لا يعقبها أسى أو ندم، فالأعمال التي يؤديها الإنسان يشعر بعد أدائها برضا أو تحسر، وتلك نتائج نحصل عليها بعد الصوم وبعد انقضاء أيام العيد، وخيرنا من يشعر بالرضا والتخفف من اثقال أخطائه. والأعياد محطات تمنح الإنسان فرصاً لتعديل مسار حياته أو غسل شوائب أخطائه، ولعل من أهم الفرص التي تمنحنا الأعياد والمواسم هو تحقيق المصالحة مع النفس ومع الآخرين، ومحو ما تعلق بالنفس من التقصير في أداء الحقوق والواجبات التي فرضتها طبيعة العلاقات التي يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني، وفي الأعياد تبرز فضيلة التسامح في ظلال معاني العيد السامية وإشراقاته التي تمحو العتمة وتأذن بالأقدام على نسيان الاحقاد، وتفسح سبل التواصل وإعلان التسامح. وكم شهدت الأعياد من مواقف الصفو وعودة العلاقات الطيبة التي كان الضعف والغضب والاندفاع مبرراً لحدوثها، وحال أخذ العزة بالإثم والشعور بالظلم أو الأمل في تنازل الآخرين دون حسمها، ليجيء العيد بعد شهر كريم ختم بالمغفرة ليشعر الإنسان بدوره في التسامح لتعود الأخوة والصفاء الذي كان يجمِّل العلاقات بين المحبين شعاراً يرافق العيد، فيدفن كثيراً من الخلافات التي لم تجد المحاكم أو المصلحون سبيلاً إلى حلها. لذا يترقب كثير منها أيام العيد لتعود علاقاته بمن أغضبهم أو قصر في أداء حقوقهم وواجباته نحوهم إلى ما كانت عليه في أيام الصفاء والوفاء، ولئن مضت أيام العيد دون حدوث ذلك فقد يشعر المرء بالمرارة، وعليه الانتظار إلى يوم عيد جديد. من أجل ذلك سعى الناس إلى التجمع في أيام العيد أسراً وأصدقاء، وكان التزاور في العيد واجباً لما يترك من آثار حسنة بين الناس وفي نفوس أبنائهم، ولما يعمق من التعارف واتصال العلاقات الطيبة بين الاجيال. أما الشعراء فإنهم يجدون في العيد فرصتهم لتذكير من يحبون بعامر مودة أفسدها الخلاف أو الغضب، لذا نجدهم يبدعون أبلغ العبارات وأشدها تأثيرا للتصالح: يا سِيد هلَّت ليالي العيد واحنا الذي ما تصالحنا ما هي شروط الهوى يا سِيد الناس في عيد إلا احنا ومنهم من حال الخلاف بينه وبين من يحب فلم يره في العيد، وما زال الأمل لديه ماثلاً لعودة أيام الصفاء: أقول في نفسي وانا اعايد الناس متى أشوفك؟ تكمل افراح عيدي أجامل وربي عليم بالاحساس وَشْ هو شعوري وانت عني بعيدِ لا صرت عندي وقتي اعياد واعراس حتى ولو اني بسجنٍ حديدي وأشدهم حسرة من كان له محب غائب لا يراه يوم العيد أو يفتقده في أيام العيد لبعد أو خلاف وكان من أحرص الناس على معايدته: كلٍّ نهار العيد عايد حبيبه والتم شمل اهل القلوب المواليف وانا حبيبي غايب الله يجيبه ويا حسرتي كان انتهى العيد ما شيف ومن حرص المحبين على أداء واجب المعايدة التعجيل في تقديمها: أقبل هلال العيد جيتك أهنيك وقت السحر ما ودّي الناس تدري لا تطري الفرقى عسى الله يخلِّيك فرقى الحبايب منكوي منه صدري قلبي وعيني والمعاليق ترجيك رد النظر لا ترخص اليوم قدري هذي يديني ترتجف بين اياديك اعطف علي، لا توقد النار بدري وفي الأبيات أمل ورجاء واستعطاف لعل العيد يجدد علاقة شابها شيء من الخلل. والناس تحسب الأيام وتجدها طويلة حتى إذا أقبل العيد شعروا بانفراج أزماتهم فالعيد فاصلة بين الأيام وفيه تتبدل أشجانها افراحاً: العيد قرب وانت يا زين مطلوب وان عودت للصدق ما انته معذَّر محبوب لا ينسى مع العيد محبوب قلبه وفكره دون خله تكدَّر وشاعر يتساءل في العيد: وين انت يا اللي عيدنا في محياك كَف القدر من ضيقة الخلق بسته * * * شَرْيت لي ثوب على شان لقياك والثوب راحت موضته ما لبسته وشريت عطرٍ ما زهانى بليّاك اربع سنين بعلبته ما لمسته ودفتر قصيدٍ كل يوم يْترجّاك ما فيه يومٍ ما سهرت ودرسته ومنهم من يتمنى الخير في العيد لمن يحب أينما كان، ولكنه إذا شاهد المحبين يعايد بعضهم بعضا تذكر من يحب وأخذته العبرة بعيدا عنهم: عيدك مبارك صاحبي ويْن ما كنت يزف لك نبض الخفوق التهاني عيدك مبارك كُثْر ما بي تمكَّنْت كُثْر الغلا اللي بالضلوع المحاني أو كُثْر ما في فرحة العيد حزَّنْت وارخيت لجيوش العذاب العنانِ يوم الْتِفَتّْ وشِفْت ما غايب الا انت ضاق الوجود وكل همٍّ غزاني ومنهم من تتجدد أعياده كلما رأى من يحب: شوفتك عيد وجيتني ليلة العيد والعيد صار بشوفتك عيد ثاني أنا حظيظ بجيتك يا اتلع الجيد ليلة فرح فيها نزف التهاني بعض الصدف تسوى جميع المواعيد يرسم بها الواقع خيال الأماني وعلى أية حال لأن العيد يدخل الفرحة إلى القلوب حتى أولئك المكلومين فإنهم يراعون مشاعر الآخرين في العيد، فلا يبهتون رحتهم بأساهم وإنما يحتسبون الأجر ويدفعون للعيد حقه من المشاركة في الابتهاج به لأنهم يرون أن العيد فرحة جماعية يجب تجسيدها فيؤثرون على أنفسهم ولا يسلبون الناس حقهم في الابتهاج بالعيد. رحم الله زمناً تولى ولن أزيد، وكل عام وأنتم بخير.