جُبل الإنسان ليعيش مع الجماعة، فلا يمكن لبشر أن يستغني عن الحياة مع الآخرين كلياً، ومن الطبيعي أن يستميت ليلوذ بالهرب من الوحدة والغربة، لكنّ هناك من ترميه ظروفه إليها وأقداره، ولو كان محاطاً بالأهل والأحباب، فالوحدة ليست في أن تبقى وحيداً وإنما أن يبقى قلبك كذلك، فلا يكون لك وجود في حياتك!، فأنت كالغريب بين من تنتسب إليهم وتدعهم بالأهل والأقارب، أن تسكن منزلاً عامراً أو قصراً مشيداً لكنّه يبدو وكأنّه كهف مظلم مخيف، أن تعاشر من تحب وملامحك ترتجيه ووتوسل إليه كي يسلط عليك جزءاً بسيطاً من اهتمامه، أن يحضنك، يسأل عن حالك، يجعلك تبتسم، يشعرك بأنّ حياتك آمنة، ويبدد مخاوفك. ويؤكد مختصون على أن ضعف العلاقات الحميمة سبب رئيس للشعور بالوحدة، كما أنّ العلاقة بين الأباء والأبناء تضعف عند ابتعادهم وانشغالهم بأمور أخرى، وهو ما يُحتم ضرورة أن يسعى الأبناء على توطيد العلاقات بعدد من الأصدقاء، حتى تتغير أجواؤهم الحياتية، إلى أفضل مما هي في المنزل. شبه عانس وقالت "فاتن": إنها لم تتمكن من الدخول للجامعة بعد حصولها على الشهادة الثانوية بمعدل منخفض؛ مما جعلها أسيرة منزل أسرتها، حيث يسكن والداها كبيرا السن، فيما يعمل شقيقها خارج المدينة ليتمكن من الإنفاق على الأسرة، مبينةً أنّه بعد أن تنتهي من واجباتها اليومية يتوفر لديها وقت فراغ كبير، تقضيه في قراءة الروايات والمجلات، وأحياناً تتابع الأفلام والمسلسلات، كاشفةً أنّها تشعر بوحدة قاتلة بحكم أنّ والديها ينامان مبكراً، فتقضي هي ساعات الليل لوحدها، موضحةً أنّه لم يتقدم أحد لخطبتها لأنّها دخلت في سن الثلاثين، ولذلك ينظر لها بعض أفراد المجتمع على أنّها "شبه عانس"!. هاجس أرملة وبيّنت "أم محمد" أنّ زوجها رحل وترك لها معاشاً كافياً مكنها من النفقة على أبنائها، مضيفةً أنّه ترك لها أيضاً إحساساً بالوحدة، وفراغاً كثيراً يحطم الأعصاب، مشيرةً إلى أنّها تبدأ يومها بإعداد كل ما يحتاجه الأبناء، ثم تغرق في أعمال المنزل حتى يحين موعد خروجهم من المدرسة، ليملأوا المنزل بضجيجهم، لكنّهم ما يلبثوا أن يتسللوا إلى أسرّتهم عند العاشرة مساءً، لتعود إلى الهاجس الذي يؤرق نومها، وتدخل في حالة أرق مستمر، لافتةً إلى أنّها كانت تحلم بأسرة ولكن القدر كتب لها أن تترمل، موضحةً أنّه قد تقدم لها الكثير من الرجال لكنّها رفضتهم خوفاً على أطفالها، الذين هم في حاجة من يحميهم، فتكون بين نار ضعفها وحاجتها إلى سند في دنياها وخوفها على صغارها من الجور والضياع. وحيدة في البيت وأشارت "أنيسة" إلى أنّه رغم وجودها داخل بيت كبير، إلاّ أنّها تشعر بالوحدة بصورة كبيرة، فوالدها رجل أعمال مشغول دائماً بسفره، ووالدتها منشغلة بزميلاتها وصديقاتها وارتباطاتها الاجتماعية على مدار اليوم، ولذلك هي تشعر بأنّها وحيدة في البيت ليس معها إلاّ الخادمة، فشقيقها يدرس خارج الوطن، موضحةً أنّه لولا أنّها تتعامل مع بعض صديقاتها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي لقتلتها الوحدة، فهي نادراً ما تجلس مع والدتها، حيث إنّها تأتي من زياراتها وواجباتها الاجتماعية في وقت متأخر، وقد يصادف لقاؤهما أحياناً عودة الوالد من سفره، فيجتمعون معاً ليلة أو يوماً، ولكن بعدها تعود الأمور كما كانت. زوجة الأب واشتكت "مريم" من وحدتها التي حرمتها الاستمتاع بالحياة، مبينةً أنّها تعيش مع والدها وزوجته وشقيقاتها، مشيرةً إلى أنّ تجربة الانفصال العاطفي عن أفراد أسرتها ألقت بظلالها على حياتها، فهي وشقيقاتها يلقين معاملة قاسية في المنزل، حتى بدأن بالشعور وكأنهن تم تقييدهم من الداخل بحبال غليظة، وهذه الحبال لا تقيدهن وتشل إرادتهن فحسب، وإنما تشدهن دائماً إلى الخلف، إلى ما وراء ستار كثيف يخفي عجزهن عن الإندماج في المجتمع أو الخروج من عزلتهن، مبينةً أنّها تحاول أن تتصرف خارج المنزل وتنسى كل ما يحدث لها على يدي والدها، ولكن محاولاتها لم تنجح، ولذلك تحاول جاهدة أن تبتعد عن الصدام مع زوجة والدها أو حتى الاحتكاك بوالدها، رغبةً منها أن لا تسمع منه شكاوي من زوجته، فهي تهرب منهم إلى وحدتها لتتسلى بمطالعة الصحف والمجلات. توطيد العلاقات واعتبرت "فريال مصطفى" -اخصائية نفسية- أنّ ضعف العلاقات الحميمة سبب رئيس للشعور بالوحدة، مضيفةً أنّ العلاقة بين الأباء والأبناء تضعف عند ابتعادهم وانشغالهم بأمور أخرى، مشددةً على ضرورة أن يسعى الشاب والفتاة على توطيد العلاقة بعدد من الأصدقاء، ليكون اتصالهما بشكل دائم ومستمر، إضافةً إلى مصارحة الأب أو الأم بما يشعر به، وإظهار أنّه بحاجة إلى أن يحصل على اهتمامهما ليتخلص من ما أصابه.