لن أتطرق لموقفي من تجسيد شخصيات العشرة المبشرين بالجنة وخصوصا الخلفاء الراشدين في مسلسل عمر الذي يعرض حاليا على القنوات الفضائية، فهذا التجسيد لم يكن ممكنا طوال قرن من التجربة السينمائية والتلفزيونية العربية، ولا أعلم ما الذي حدث في رمضان هذا العام حتى يحدث هذا الانقلاب العظيم. لست بصدد إصدار فتوى مع أو ضد هذه الدراما لكنني من المتابعين لها والحريصين على ألا يفوتني أي جزء منها، ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئا فأنا أصلا من المحبين للدراما التاريخية، وأذكر أنني وأنا صغير كنت الوحيد في بيتنا الذي يشاهد المسلسلات التاريخية حتى ان شخصية عبدالله غيث في دوره حمزة عم الرسول وعزت العلايلي في شخصية خالد بن الوليد وغيرهم من الممثلين مازالوا راسخين في ذهني، بل ان معلوماتي التاريخية تشكلت من خلال الدراما التاريخية عززتها القراءة النقدية بعد ذلك. لكن تجسيد شخصيات الخلفاء الراشدين لم تكن في حسابي يوما، ولأنني أتابع مسلسل عمر هذه الأيام فإنني أجبر العائلة على مشاهدته معي، وأفراد عائلتي ليسوا من المتابعين للدراما التاريخية اصلا، لكن لفت انتباهي قول ابنتي الصغيرة "هذا أبو بكر" عندما ظهر الممثل غسان مسعود في شخصية الخليفة الراشد الأول، فقلت لها انه يحاول أن يجسد شخصيته فقط. ما أخشاه هو أن تترسخ هذه الشخصيات في أذهان ابنائنا (كما ترسخت شخصيات تاريخية في ذهني) لتعبر عن رجال عظام لم تصورهم الدراما المرئية في السابق. إن هيمنة مادة معينة على البناء في المدن التاريخية يفرز النمط المعماري لهذه المدينة لذلك نجد أن العمارة التاريخية متجانسة داخل المكان الذي توجد فيه فالنمط العمراني لمكة كان يجب أن يكون متجانسا لا كما نشاهده في المسلسل أذكر أنني نشرت في جريدة الرياض قبل عامين مقالا بعنوان "أخطاء معمارية في الدراما التاريخية" (السبت 9 شوال 1431ه الموافق 18 سبتمبر 2011م، العدد 15426)، وكنت أتصور أن الدراما التاريخية يجب أن تكون فرصة حقيقية لتطوير البحث المعماري التاريخي فالانتاج الضخم والميزانيات الهائلة لهذه المسلسلات لن يعيقها أن تتبنى بعض الدراسات التي تهيئ المجال أمام العاملين في المسلسل كي يعكسوا الواقع المعماري التاريخي للأحداث، ولكنني تفاجأت في مسلسل عمر من كثرة الاخطاء المعمارية التاريخية، ومن المغالطات البصرية والحضرية التي كان يمكن تلافيها لو تم اعداد دراسة تاريخية عمرانية للأحداث. بالنسبة لي كنت اتابع الفضاء العمراني الذي تم تصوير الاحداث التاريخية فيه، ونحن نبدأ الآن بمكةالمكرمة، التي حاول المخرج أن يتخيلها في وقت الرسول وقد نجح كثيرا في تصوير المجال الاجتماعي/ الحضري لمكة، لكنه أغفل التفاصيل المعمارية التي قد لا يتنبه لها المشاهد العادي، فمثلا تم تصوير بيوت مكة على أنها مبنية من الحجر ولا يوجد سند تاريخي على ذلك، بل ان الحديث الذي وصلنا عن الرسول أنه امتدح الحنفي راعي الطين، أي أن عمارة مكةوالمدينة كان الطين مادة رئيسية فيها، ولا يعني ذلك أن الحجر لم يكن مستخدما في ذلك الوقت بل ما أتصوره هو هذا المزيج من الطين والحجر الذي شكل النمط المعماري لمكةالمكرمة على وجه الخصوص، ومن المعروف كذلك أن كل مادة بناء تفرز الاشكال البصرية الخاصة بها، اي أن الحجر له أشكاله وأنماطه البصرية والطين كذلك وفي اعتقادي أن مسلسلا بهذا الحجم كان من المفترض أن تكون هناك دراسة للأنماط المعمارية السائدة في ذلك الوقت حتى يكون صادقا ومعبرا. وكما ذكرت فإن هيمنة مادة معينة على البناء في المدن التاريخية يفرز النمط المعماري لهذه المدينة لذلك نجد أن العمارة التاريخية متجانسة داخل المكان الذي توجد فيه فالنمط العمراني لمكة كان يجب أن يكون متجانسا لا كما نشاهده في المسلسل فمرة نجد فتحات مثلثة وشرفا فوق أسطح المنازل ومرة نجد عقودا نصف دائرية وأخرى مدببة وبعضها عريض ومنخفض، تعدد الانماط المعمارية مخالف تماما للواقع التاريخي للمدن القديمة لأنها عادة ما تتبنى نمطا واحدا يسود على كل الانماط ويكون التنوع ضمن إطار الوحدة الذي يفرضه النمط المعماري. المشكلة الاكبر هي أن المسلسل يعرض أنماطا معمارية لم تكن قد تطورت في وقت الاحداث التي تجري في مكة، فمثلا تظهر في احداث المسلسل في أحد البيوت عقود على شكل حدوة الفرس مثل تلك الموجودة في مسجد قرطبة وقصر الحمراء ومن المعروف أن هذا النمط من العقود تطور في الاندلس بعد ثلاثة قرون تقريبا من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. التفاصيل التي يغفلها المسلسل كثيرة وتدل على أن المستوى الدرامي العربي مازال يفتقر "للبحث العلمي" وهذا لا يقتصر فقط على العمارة بل وحتى على تسلسل الاحداث التاريخية حسب نزول القرآن، ففي الحوار بين الممثلين نجد أنهم يتلون سورا من القرآن نزلت في المدينة وهم في بداية بعثة الرسول وتجري على ألسنتهم حوارات عبارة عن دراسات حديثة نشرت مؤخرا حول القرآن. ما أثارني من الناحية المعمارية والحضرية في هذا المسلسل هو النظام الحضري لمكةالمكرمة التي يصورها المسلسل، فهو يجعل من مكة عبارة عن بيوت متناثرة حول الحرم ولا يظهر الوادي والجبال المحيطة بالكعبة بشكل واضح وإن كانت أحدث المسلسل تبين وجود الجبال البركانية السوداء القريبة من الحرم. كما أن تصوير بيوت مكة على أنها مبعثرة ودون نظام ومجرد بيوت مفككة لا تشكل نسيجا حضريا يعد مخالفة تاريخية كبيرة، فقد تعودت العرب أن تسكن في بيوت متلاصقة وكل بيت من بيوت العرب يشكل ما يشبه القرية الصغيرة التي يوجد في وسطها "حواء" وكانوا يدعون هذه البيوت بحواء بني مخزوم أو حواء بني هاشم، (وهذا أقرب ما يكون للقرى العسيرية التي تتجمع فيها البيوت من الاسرة الواحدة داخل قلعة مغلقة يطلق على كل قرية اسم من يسكنها). الصورة التي ينقلها المسلسل ليس لها علاقة بواقع مكة وقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو عدنا لبعض الدراسات التاريخية والآثارية لوجدنا أن المفهوم الحضري المتبع لبناء المدن والبلدات في الجزيرة العربية قبل البعثة كان هو "الآطام" وهو نظام عمراني يمني انتقل مع هجرات القبائل العربية إلى الحجاز ووسط وشرق الجزيرة العربية وهو نظام يعتمد على بناء قلاع محصنة تسكنها قبائل أو فخوذ من قبائل وتتحصن بها من هجمات الاعداء لذلك فقط وصف الله اليهود في المدينة أنهم لا يقاتلون إلا من وراء جدر محصنة وقد كانت بيوت اليهود في المدينة عبارة عن "آطام" كان لبني النظير وبني قينقاع وغيرهم قلعته الخاصة به (أو بلدته المحصنة). ما أود أن أقوله ان الدراما التاريخية العربية (على عكس تلك التي تنتج في الغرب) لا تتوقف عند التفاصيل العمرانية ولا تعطيها الوقت الكافي من البحث والتقصي، وتعتمد على "جهل" المشاهد وضعف ذاكرته العمرانية وهذا في حد ذاته يؤكد للعالم عدم جديتنا، فمثلا لو ترجم مسلسل عمر وعرض في الغرب أنا على يقين أن بعضهم سيشعر بالامتعاض من هذا القصور المعماري في المسلسل وسوف يتأكد لديه أننا لا نفقه في عمارتنا ونعتمد على ما هو ظاهر ومباشر ولا نتغلغل في التفاصيل التي تتطلب بعض البحث العلمي، ومع ذلك فأنا لا ألوم من أنتج المسلسل، فالجامعات العربية وكليات العمارة في العالم العربي لم تقم بواجبها كما ينبغي، فلماذا نلوم الآخرين وأصحاب الشأن غافلون.