إن خبر وفاة رجل من أغلى الرجال الذين تعرفهم في حياتك مصاب جلل وخطب عظيم، ينزل عليك صاعقة تهد كيانك وتزلزل أركانك وحواسك، ولا تستوعب الخبر أو تصدقه، ولكن المؤمن يسترجع ويوجه وجهه وقلبه وحواسه لربه جل وعلا ويتضرع إليه دامعاً خاشعاً داعياً له بالرحمة والمغفرة والدرجات العلى من الجنة، لقد كان مصابي في نايف بن عبدالعزيز مصاب الابن في والده فهو صاحب القلب الكبير والعطف والإحسان، لقد توارى جبل أشم طالما نظرنا إليه سنين وسنين متربعاً في شموخ وثبات وصلابة ،ظلالاً وملجأ للقاصي والداني، فإذا هو يهوي ويستقر في خشوع ويغادر بصمت العظماء الذين كتبوا التاريخ ليس بقرطاس ومداد بل كتبوه في قلوب الناس وعقولهم وحياتهم. نعم لقد رحل نايف بن عبدالعزيز الرجل الإنسان قبل أن يكون أميراً أو مسؤولاً، وسيظل ذكره وتاريخه منارة للأجيال ورواية يحكيها أب لولده ويتناقلها الأبناء والأحفاد. ماذا أكتب عن نايف وماذا عساي أن أقول؟ أأتحدث عن إنسانيته عن حلمه عن صبره عن قوة شخصيته عن عظيم إدراكه وفهمه واطلاعه أم عن روعة إدارته وقيادته وسلاستها أم عن حكمة صمته عندما يصمت وبلاغة حديثه عندما يتحدث. أبواب ومداخل كثيرة لا يمكن أن يوفيها مقال أو مقالات لتجسيد واقع وشخصية نايف بن عبدالعزيز. روى لي والدي -رحمه الله- الكثير من القصص والمشاهد التي كان شاهداً عليها بحكم عمله بالقرب منه تعكس إنسانية نايف وحكمته وصبره وحلمه وأناته. وقد قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس (إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة) رواه مسلم. حكى لي عن كثير من صنائع المعروف قدمها -رحمه الله -لا يعلم عنها أحد ولا يريد أن يطلع عليها الناس من علاج مرضى، ورعاية أسر، وكفالة أيتام وأرامل، ومساعدة محتاج ومعوز، وجبر عثرة كريم، وتوجيه جاهل، وعفو وتسامح عن مذنب ولو في حقه، وغير ذلك كثير وكثير. كان ينصت إليك عندما تتحدث مهما كانت مكانتك ومهما كان سنك ويتلطف معك ويدقق في الحديث ويجيب على كل نقطة دون كلل أو ملل، كنت أستحي عندما كنت أزوره وأتحدث معه وأرى آثار التعب والارهاق عليه وأستأذن في المغادرة ويستبقيني إلى أن ينتهي ما نتحدث به وقد يمتد الحديث والبحث إلى ساعات الصباح الأولى عندما يخرج من مكتبه متوجهاً لمنزله أو للمطار لرحلة عمل، وأذكر لحظة وفاة الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله أنني هاتفته معزياً فأخذ معي مدة من الوقت رغم هول الفاجعة متحدثاً عن سلطان الخير ومآثره وإيمانه بقضاء الله وقدره. كان يرد على كل من يتصل به في أي وقت من ليل أو نهار، وفي أي مكان كان هو في داخل المملكة أو خارجها ولا ينهي المكالمة إلا بعد أن يستوفي الموضوع كاملاً. كما تجده سباقاً في المؤازرة في الشدائد لمن عرف ومن لم يعرف ولا أنسى لحظة وفاة والدي -رحمه الله- وما زلت وإخوتي أمام جسده المسجى على سريره في المستشفى وللتو قد فاضت روحه فكان أول المهاتفين ونحن في تلك اللحظة الأميران العظيمان نايف بن عبدالعزيز رحمه الله وسلمان بن عبدالعزيز حفظه الله وأبقاه وكانا خارج المملكة. ماذا أقول وماذا أترك ولكن التاريخ يصنعه النخبة من الرجال ممن منحهم الله القوة والقدرة والحكمة وسداد الرأي والأمير نايف بن عبدالعزيز - رحمه الله - واحد من هؤلاء الرجال الذين امتازوا وتمايزوا بالقوة والحكمة فكان -رحمه الله- خليقاً لأن يسجل اسمه في تاريخ العظماء بأحرف من نور بإخلاصه لوطنه وبلاده وقوة إرادته وحكمته. فقد كان الأمير نايف بن عبدالعزيز رجل دولة من طراز فريد بل لا أكون مبالغاً إذا قلت إنه أمة برجل تجلى ذلك من خلال نجاحاته في كل مناصبه التي تقلدها والأعمال التي أوكلت إليه إلى أن بويع ولياً للعهد قبيل رحيله عن الدنيا إلى الحياة الأبدية. ولقد حفظ الله به البلاد والعباد من شر مستطير طال كثيرا من دول المنطقة حيث التطرف والدم والإرهاب والغلو الذي اكتوت بنارة هذه الدول فكان رباناً ماهراً عبر بالبلاد من حيز الدم والإرهاب إلى حيز الأمن والأمان بأقل الخسائر. إن (نايف بن عبدالعزيز) الرجل القوي الأمين الذي كسب ثقة والده الملك الإمام المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن طيب الله ثراه وثقة إخوانه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد رحمهم الله وثقة والدنا وقائد مسيرتنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، استطاع أن يسدل الستار على أصعب مراحل التاريخ السعودي الحديث ببصمة لا تحتمل التزوير تحمل اسم هذا الرجل -رحمه الله نايف بن عبدالعزيز آل سعود) حيث قضى على فلول الإرهاب والتطرف الفكري الذي ضرب بأطنابه جنبات المنطقة، فمنذ ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن والأمير يذود ب (بسالة المقاتل الشجاع)، عن أمن بلاده ويقف بوجه كل من يحاول مس استقرارها عبر موقعه على رأس الوزارة (الساهرة). ولعل الأحداث الإرهابية التي ضربت المملكة عام 1433ه، كانت أحد أبرز الأحداث الحضارة في الذهن والتي تصدى لها - رحمه الله - كما عرف عنه رباطة جأش وحزم في التعامل مع كل من يلامس (الأمن) الذي يعتبر (خطاً أحمر) بالنسبة له، لا يقبل الاقتراب منه. وبات تعامل الأمن السعودي مع الإرهاب ودحره مضرباً للأمثال من قبل الغرب والعرب، وهو ما حدا بقيادات، وساسة، وأمنيين غربيين إلى الدعوة مراراً إلى الاستفادة من تجربة الأمن السعودي بقيادة - المغفور له - سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود في التعامل مع الإرهاب. ومع تلك القوة والحكمة يعتبر الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله متحدثاً حصيفاً ومحاوراً قوياً، واشتهر سموه بمؤتمراته الصحفية ولقاءاته الإعلامية التي يرى فيها كثير من الإعلاميين السعوديين مثالاً للمؤتمرات الصحفية الناجحة لجرأة الملفات المطروحة فيها وشفافية الإجابة القادمة دون أي تحفظات فكثيراً ما يُسأل سموه عن قضايا أمنية حساسة لا يتردد في الإجابة عنها، كما يتميز سموه بقربه من كافة فئات المجتمع على حدٍ سواء وتفهمه لمجمل التوجهات الفكرية على الساحة السعودية وإدراكه للتطورات الفكرية ماجعل منه شخصية مقبولة لدى الجميع وأعطاه قرباً وقدرة على التعامل مع مجمل هذه التوجهات. ولقد لقب رحمه الله بالعديد من الألقاب مثل نايف الأمن والأمان، رجل الأمن الأول، قاهر الارهاب، العين الساهرة، أمير الحكمة، نايف الخير، نايف السياسة والحكمة، قائد الأمن الفكري. الأمير نايف وعبدالعزيز بن عبدالله السديري وبينهما معالي الأستاذ محمد السديري وكيل الوزارة للشؤون الأمنية في إحدى مناسبات الوزارة 1416ه وإن كان الأمير نايف اشتهر بالجهود الأمنية والإنسانية إلاّ ان له جهودا أخرى لا تقل بحال عن تلك الجهود الرائعة في حفظ الأمن ،أبرز تلك الجهود اهتمامه بالعلم والعلماء وتقديره لهم وعلاقته القوية بهم منذ نعومة أظفاره وتواصله معهم لقاء ومراسلة وبحثاً كيف لا وهو من تعلم القرآن الكريم صغيراً فقد نشرت جريدة أم القرى في عددها الصادر في 19 شعبان 1362ه خبر الاحتفال بختم الأمير نايف للقرآن على شرف ولي العهد آنذاك الملك سعود وعدد من الأمراء رحم الله الجميع، وقد كتب العلامة المحقق الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله - وهو الرجل الناقد البصير الذي لا يعرف المجاملة - كتب في مقدمة أحد كتبه عام 1397ه ما نصه: «أما الرجل الذي أجرى الله على يديه لطفه بي، واستنقذني بمروءته من العمى وحاطني حتى عدت بصيراً، فإني لا أملك له جزاء إلا الاقرار بفضله، وإلاّ الدعاء له كلما أصبحت وأمسيت. صديق لا تنام صداقته عن أصحابه، ورجل لا تغفل مروءته عن غيرأصحابه ثم هو بعدغني عن اللقب بمكارم أخلاقه وفوق كل لقب بسماحة شيمه (نايف بن عبدالعزيز آل سعود)، لم يزل منذ عرفته قديماً، يزداد جوهره على تقادم الأيام سناً وسناء. صرحت بذكر اسمه مطيعاً لما يرضيني، عاصياً لما يرضيه». وقد ترجم -رحمه الله- هذه العلاقة بينه وبين العلم وأهله بإقامته العديد من الأقسام والكراسي العلمية والتي منها: - قسم الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود للدراسات الإسلامية واللغة العربية في جامعة موسكو في جمهورية روسيا الاتحادية. - كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود لدراسات الأمن الفكري في جامعة الملك سعود في الرياض. - كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود لدراسات الوحدة الوطنية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض. - كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود للوقاية من المخدرات في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض. - كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود لدراسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجامعة الإسلامية في المدينةالمنورة. - كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود لتنمية الشباب في جامعة الأمير محمد بن فهد في المنطقة الشرقية. - مركز الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود العالمي للثقافة والعلوم في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في المنطقة الشرقية. - معهد الأمير نايف للبحوث والخدمات الاستشارية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وقد اهتم بالسنة النبوية اهتماماً كبيراً ومن مظاهر تلك العناية قيامه بإنشاء الجوائز والمسابقات التي تعنى بالسنة النبوية، ومن ذلك إنشاء جائزة عالمية فريدة في مجالها واختصاصها، وهي: (جائزة نايف بن عبدالعزيز آل سعود العالمية، للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة). وقد هدف من وراء تلك المسابقة إلى تشجيع البحث العلمي في مجال السنة النبوية وعلومها والدراسات الإسلامية المعاصرة، واذكاء روح التنافس العلمي بين الباحثين في كافة أنحاء العالم، والاسهام في دراسة الواقع المعاصر للعالم الإسلامي واقتراح الحلول المناسبة لمشكلاته بما يعود بالنفع على المسلمين حاضراً ومستقبلاً، وإثراء الساحة الإسلامية بالبحوث العلمية المؤصلة، وابراز محاسن الدين الإسلامي الحنيف وصلاحيته لكل زمان ومكان. وكل من عرف نايف عرف فيه اهتمامه بالعلم والثقافة والأدب من خلال اطلاعه العميق وقراءاته المتعددة، فمنذ صغره كان يمتلك مكتبة نادرة يقضي فيها أوقات فراغه مما رسخ علاقته بالعلم والفكر والأدب ويتضح هذا من خلال استشهاداته في حديثه وكلماته. ولا احصي عدد الرسائل والبرقيات ومكالمات العزاء التي تلقيتها من علماء ومفكرين ودعاة ومثقفين ليس من المملكة ودول الخليج والدول العربية وحسب بل من أفريقيا وأوروبا وآسيا. ولا يذكر الحج إلاّ ويذكر الأمير نايف، فلا يمكن ان ينسى الدور المحوري الذي كان يقوم به رحمه الله في خدمة حجاج بيت الله الحرام وعماره وزوار مسجد نبيه صلى الله عليه وسلم، من خلال إشرافه المباشر على أعلى أعمال الحج باعتباره رئيساً للجنة الحج العليا سنين عديدة سواء من الناحية التنظيمية والتخطيطية والإشرافية أو رعاية أمن الحج والسهر على استتبابه وعدم شعورهم بأي منغص عليهم وهم في حمى هذه البلاد المباركة متفرغين لأداء نسكهم والتقرب لبارئهم. كما ان نايف رحمه الله كان مدرسة في القيادة والإدارة، فقد تخرج على يديه العديد من المسؤولين الذين تسلموا مراكز قيادية عليا في الدولة بمختلف المواقع من مدنيين وعسكريين أثبتوا من خلالها نجاح هذه المدرسة وهذه التربية الإدارية الدقيقة والتي لا تغيب في نفس الوقت الجانب الإنساني في الإدارة كما هي طبيعة نايف بن عبدالعزيز. وفي النهاية أقول ان محاولة ترسم شذرات من جهود الأمير نايف لا يفي بها مقال واحد كما أشرت وهو أمر يستحيل فقد ضرب - رحمه الله - بسهام كثيرة في مجالات متعددة كان لها الأثر البالغ في توطيد أركان المملكة وحفاظها على أمنها وأمانها واستقرارها وستظل الأجيال تلو الأجيال شاهدة للرجل بالفضل. إن العظيم وإن توسد في الثرى يبقى على مر العصور عظيماً ولا ريب ان وفاة الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله مصاب جلل على أهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها لا سيما بعد أشهر على غياب قامة شامخة وعظيم آخر هو صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمهم الله جميعاً مما استحق معه هذا العام ان يسمى عام الحزن، وكما قال بعضهم: بكيت على سلطان حتى إذا انقضى من العام نصف مات في النصف نايف وفي مثل هذه الحال لا ينبغي ان ينسينا الحزن قول (إنا لله وإنا إليه راجعون) ففي هذا خير عظيم بينه الله بقوله: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)، ولا نملك سوى الدعاء بأن يتغمده الله برحمته وان ينزله منازل الشهداء والصديقين وان يتقبله في الصالحين، فإن فقدنا نايف ومن قبله سلطان فإن الله عوضنا بسلمان وأحمد فنحن: إذا سيد منا خلا قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول وما أخمدت نار لنا دون طارق ولا ذمنا في النازلين نزيل فعوضنا وعزاؤنا في خلفه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع -حفظه الله ورعاه -سلمان الخير والوفاء ودرع الوطن، وفي صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبدالعزيز وزير الداخلية -حفظه الله- الذي كان عضد نايف في السهر على أمن الوطن تحت رعاية وتوجيه قائد المسيرة ووالد الجميع المسدد المصلح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله وأطال عمره على طاعته ووفقه واخوانه أبناء عبدالعزيز الإمام الهمام لما فيه صلاح البلاد والعباد وخير الإسلام والمسلمين. * وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون المساجد والدعوة والإرشاد وأستاذ الدراسات العليا