الحياة مجموعة من الفروض، يُتاح لفريق من الناس أو فرد أن يصطفي منها خياراً، ويشغل مَنْ بعده به، وهذه الفروض المصطفاة هي التي تقود حياة الفرد والجماعة، وإذا كان للإنسان الأول أن يختار من بين الفروض والخيارات التي أمامه، ويأخذ أصلحها عنده، فللإنسان الذي يأتي بعده أن يفعل فعله في البدء من ذا الذي يجرؤ ويقول لنا: لقد اخترتُ، وأنا صغير، هذا الذي نشأت عليه كبيرا؟ منْ ذا الذي يملك من القدرة العقلية في صغره أن يختار ويُوازن بين الأطروحات المتعددة، إن كان ثمة تعدد أصلا؟ من منّا مال مقتنعا إلى ما هو عليه الآن؟ نحن كافة تشرّبنا معارف، لم يكن لنا دور في اختيارها، بل لم نكن نملك في تلك المرحلة العمرية أي قدرة على التفريق بين الخرافة والحقيقة العلمية، فلو عشنا مع الهندوس لقدسنا البقرة، ولو عشنا مع اليابانيين لقدسنا الأمبراطور، ولو عشنا مع قبائل المايا في أمريكا الجنوبية قديما لكنا مثلهم! إذن فغاية ما كان أننا وجدنا محيطنا التعليمي يدفع بمعارفه إلينا، ويحضنا على ضبطها، وإتقانها، فبذلنا طاقتنا في استيعابها أولًا، وفي تفهمها ثانيا، لم يكن ما تحمله معارف بيئتنا من حق هو السبب وراء قناعتنا بها، وقبولنا لها، فالطريقة التي قَبِل بها أفراد المايا ما عُلّموا هي نفسها الطريقة التي قبلنا بها معارفنا الدينية والثقافية، لا فرق بيننا وبينهم إلا في الظروف التي اكتنفت نشأتنا، واكتنفت نشأتهم، نحن وهم لم نقبل بهذه المعارف - حتى وإن كانت الحق صراحا - لأننا اختبرناها، وتمعنّا فيها، ووضعناها تحت صيّب من نظرات الفحص والتأمل، كل ذلك لم يكن، بل لم نكن نملك القدرة عليه في تلك السن الصغيرة؛ لكننا بعد أن كبرنا، وامتلكنا القدرة على البيان، والفصاحة في الحديث رجعنا إلى معارف الطفولة، وتمسكنا بها، وما كان لنا غير ذلك، وهكذا فطفولتنا المعرفية تحكمنا الآن، وهي طفولة عزيزة علينا، وليس ثمة طريق للخروج من هذه الطفولة المعرفية إلا بالعقل! فقد انتهى وقت التعلم، وبدأ وقت فحص الحمولة! إذن مرحلة التأسيس كانت في غياب من العقل، لم نكن نعقل ما نتعلمه في صغرنا، نحن جميعا كذلك، لا فرق بيننا وبين من يرى نفسه اليوم ممثلا للفهم الصحيح للدين، الجميع يتلقّى معارف، لم يكن له دور في اختبارها، ولا في استخارة التأمل فيها، أنا وأنت وهذا الواعظ وأشباهه الذين ملأوا الجو بحديثهم سواء، نحن جميعا ورثنا معارف دينية وثقافية، لم يكن لنا أي دور في قبولها؛ لكننا تحوّلنا - مع عدم قدرتنا على الشك فيها واختبارها - إلى ساعين في نشرها، ومحاربين لمن يتساءل عنها؛ لأنه لم يعش مثلنا تحت تأثيرها، لقد لعبت الصدفة دورها في تلقينا لهذه المعارف، وفي محاربتنا للآخرين من أجلها، ولا فرق بيننا وبين إخواننا المسلمين في هذه المعمورة، نحن جميعا ضحايا لمرحلة الطفولة، التي لم يكن لنا أن نختار مكانها، ولا زمان العيش فيها! ما النتيجة التي سنخرج بها حين نؤمن بهذه القضية، حين نؤمن أن ظروف عيشنا هي التي جعلتنا كما نحن عليه الآن؟ سنخرج - أيها الإخوة - بأن ثقافتنا في الدين كانت صدفة من الصدف، لم يكن لنا فيها أي دور، هي مجموعة معارف استقيناها من المحيط، ولم نبذل فيها شيئا، ولا لنيلها جهدا، حين يُدرك الإنسان حال معرفته، وكيف بُنيت يعي تماما أنّ التعليم العفوي في الصغر، هو السبب وراء كل ما نشاهده اليوم في البيئات الإسلامية، مما نشتكي منه ليلا ونهارا! وحينها يحسن بنا تذكُّر أنّ وظيفة الكبر هي أن نتأكد من معارف الطفولة، فهل قمنا بهذا الدور؟ هل وقفنا أمام معارفنا بالفحص والنظر؟ وإذا لم نقم في رشدنا بأي دور تجاه دور الطفولة، فمعنى ذلك أن الطفولة ذات التعلم العفوي هي التي تحكمنا الآن، فهل في طاقتنا أن نعود على معارف الطفولة بالنظر والتأمل والتصحيح؟ إن أول مواجهة يظن بنا أن نقوم بها هي مواجهة مراحل التكوين الأولى، قبل أن نواجه ماضينا وتأريخنا وما فيه، علينا قبل ذلك كله أن نقف بحزم أمام مرحلة التعليم العفوي، تلك المرحلة التي تمّت فيها صناعة النموذج الذهني، تلك المرحلة التي وُضِع لنا فيها الإطار، تلك المرحلة التي قُدّت لنا فيها الدروب فسلكناها! فأضر شيء على الإنسان أقرب شيء إليه! دعونا الآن من الماضي ورجاله، ما دار فيه، وما لم يدر، فحين نعرف ما نحن عليه، ونصل إلى تصور بناء معرفتنا في هذه الأزمان، وندرك التكوين المعرفي لنا، ستنفتح أعيننا - هكذا - تلقائياً على تصور الماضي ورجاله، فندركهم ونعرفهم؛ لكن بعد أن نخرج من دائرة الجهل بنفوسنا أولا. الحياة مجموعة من الفروض، يُتاح لفريق من الناس أو فرد أن يصطفي منها خياراً، ويشغل مَنْ بعده به، وهذه الفروض المصطفاة هي التي تقود حياة الفرد والجماعة، وإذا كان للإنسان الأول أن يختار من بين الفروض والخيارات التي أمامه، ويأخذ أصلحها عنده، فللإنسان الذي يأتي بعده أن يفعل فعله؛ لكن الذي يحدث دوماً هو أنّ الإنسان يرث هذا الفرض، وينسى أصله، ثم يتحول بفعله إلى درب وحيد، ومنهج فرد، وينقاد المجتمع بعد ذلك إلى مرحلة التقليد؛ لأنّ الناس الذين كانوا قبلُ، كلهم على هذا النهج ساروا، ومن ذا الذي يرى في نفسه طاقة للخروج عما ألفه مجتمعه، ودان به؟! من هنا يتضح أن حركة الإنسان في الحياة تقوده إلى دور التقليد، فهو لا ينتقل منه إلا ويعود إليه من جديد، فالتقليد جزء من حركة الإنسان، وهو أشبه ما يكون بمرحلة من مراحل حياته، تلك المرحلة التي ليس في مقدورنا الآن أن نقفزها، وإن قفزتها أمم قريبة منا، فأضحت تطرح كل يوم ما يُجدد الدماء في العقل، ويدفع به في استكشاف هذا العالم المليء بالأسرار، عالم الفكر وعالم المادة، فيحول بينه وبين الركود إلى التقليد من جديد! ويمنعه من لزوم فرض، اختاره الآباء والأجداد في فهم العقل والواقع، تلك هي الحكمة التي انتزعها الغربي من الحياة، وغفلنا نحن عنها ، ولها مقالٌ - إن شاء الله - آخر. وهذا الذي يجري في المجتمعات والجماعات له صورة مصغرة جدا، هي صورة الباحث الذي يُعالج موضوعاً أوقضية، ففي البداية ثمة فروض كثيرة؛ لكن الباحث ينتخب منها فرضاً، ويقود به البحث ونتائجه، وتظل تلك النتائج مرهونة بذلكم الاختيار، وما من البعيد أن يقلب الباحث لنتائجه ظهر المجن؛ لأنه انقلب على فرضه الذي حدا به قافلة بحثه، فأصبحت قناعات الأمس في خبر كان أو كاد! وتلك حالة الإنسان الباحث، فهل للإنسان القديم أن يكون على غير تلك الصورة؟ هل للإنسان القديم قوانين عقلية خاصة به، تجعل اختياراته، ونتائج بحثه بعيدة عن مصير نتائج هذا الباحث واختياراته؟! من الخير للإنسان أن ينظر إلى الحياة كمجموعة من الفروض تمّ اختيار أحدها، وجرت الحياة عليه، واستسلم الناس له؛ لكنه ليس الفرض الوحيد، الذي يُمكن أن تسير الحياة عليه، ولا الدرب الأوحد، هذا ما يتراءى لي من خلال حركة الإنسان في هذه الأرض! وتتشابه إلى حد كبير اختيارات البشر ومجتمعاتهم مع اختيار الباحث من الفروض التي كانت تحت نظره حين مال إلى أحدها، فهذه المجتمعات مثل الباحث تقع في خطأ من جهتين: الأولى شعورها بالإحاطة بالفروض الممكنة حين اختارت، فليس ثمة فروض أخرى لم تكن في الحسبان، وما من الفروض شيء أحسن مما اختارته. والثانية خلودها إلى الفرض المختار، ونسيان ما كان حاضرا وقت الاختيار الأول! وتلك علة العلل في الإنسان الباحث والجماعة، ولإيضاح ضرر ذلك على الإنسان والأمة تصوروا معي لو كانت المجتمعات الديمقراطية اليوم تسير على هذا النهج في اختيار من يحكم بلادها، فتختار من الأحزاب المتنافسة، وهي تُمثل هنا الفروض، حزباً، ثم تُقفل الباب أمام الآخرين في المستقبل، ويتحول الحزب بعد سنوات إلى فرض، ليس للناس من سبيل إلى غيره! هذا الذي يجري في إدارة الدولة والمجتمع يحدث نفسه في إدارة الفكر والعقل، والنمط الذي يثبت نجاحه في مجال، يصدق نجاحه في مجالات أخرى، ولهذا فنحن بحاجة ماسة إلى مفهوم الديمقراطية في مجال إدارة الفكر، نحن في حاجة ماسة إلى أن تظلّ الأفكار والتوجهات التي لم تُختر في السابق، وتلك التي جدّت بعد ذلك، حاضرةً فاعلة، لا لأنها الحق المطلق؛ لكن لأنها تُذكّرنا دوما بما كنا عليه قبل أن نصير إلى هذا الاختيار أو ذاك. حين أرى التغيير يُحارَب باسم الدين أستشعر بقوة هيمنة الفرض الذي تمّ اختياره أولًا من بين مجموعة من الفروض، وأنا أرى تدافع الآخرين لتأييده، والانتصار له، حتى أضحينا الآن لا نناقش هذا الفرض، وإنما ندافع عنه، ونرفض سواه، ونعده خروجاً عن الدين ورؤية السلف، لم يعد ثمة فرق بين أستاذ جامعي أكاديمي، ومسلم عادي، كلاهما يعيش للفرض الذي تم اختياره في البداية، ولا يبصران سواه، بل ولا يقبلان أن يُعاد النظر في تلك الفروض التي تُركت أولًا، وأصعب من هذا وذاك وأبعد أن يفكرا في إمكان صناعة فروض جديدة، لم تكن حين تمّ الاختيار في تلك المرحلة، فنحن ملزمون باختيار المتقدم علينا حتى وإن لم ندرس ظروف اختياره، والبيئة التي أحاطت به حينما ارتأى هذا الفرض أو ذاك!! إذن هي ثقافة أحكمت على نفسها إغلاق النوافذ، فما من الغرابة أن تنطبع وجوه الحياة كلها بذلك!! فعالم الأشياء وعالم الأفكار يخضعان للسنة نفسها، والقانون نفسه. وحين أرى ما يجري اليوم في بيئات الإسلام من دينونة للفرض الأول أدرك ضرورة بعث سنة التفكير، ولا أظن سنة نبوية، ولا دعوة دينية، هي أولى بالرعاية والعناية من سنة التفكير والتعقل، وهي أولى السنن بانطباق حديث:" من سنّ في الإسلام سنة حسنة" عليها، فهي السنة المفقودة في المسلمين اليوم، وهي السنة التي تُعدّ ركنا ركينا في الحياة، وهي السنة التي نجد في قبولها العنت والتعب، فهي أصعب السنن في إقناع الناس بها، وأكثرها كلفة لمن يدعو إليها؛ لأن الناس متى ألفوا شيئا كرهوا الخروج منه، فالداعي إليها مأجور أجورا، لا يحظى بها من يدعو إلى سنة جزئية، في مقدور كل مسلم أن يعرفها حين يطالع هذا الكتاب أو ذاك، وما ذلك إلا لأنه يدفع من راحة ضميره، واستقرار حاله في سبيل نشرها ما لا يدفعه ذلك الداعي إلى السنن الجزئية، فالمذكّر للمسلمين بسنة التفكير وضرورتها كمن يُذكّر الناس بدين جديد، فهل يستوي هذا وذاك في الأجر والنصب؟! وإنْ أنسَ شيئا قبل قفلة المقال فلست بناسٍ دعوة السياسي أبي متعب - حفظه الله - إلى الانفتاح على كل شيء، فالانفتاح هو البوابة التي تسمح لنا بطرح الأسئلة المشاغبة على الاختيارات السالفة، ذلكم الانفتاح الذي يجعل المسلم يشعر بقوة دينه، وصلابة مبادئه، ولم يبق بعد تدشين السياسي للانفتاح سوى مشاركة علماء الدين فيه؛ لأنهم الجناح الآخر الذي لا يُغرّد طائر الإسلام إلا به، فالانفتاح يجعل العالِم دوماً في المقدمة؛ لأنه يطرح إشكالات جديدة، وتحديات معرفية حديثة، ليس في طاقة جمهور الوعاظ أن يواجهها، فيرجع إلى حيث المكان الذي يجدر به أن يشغله! الانفتاح - أيها السادة - هو البرزخ الذي تختبر فيه قوى الوعاظ، فأسرعوا به على القديم والحديث حتى يعرف الوعاظ أين يقفون في قافلة الإسلام؟! فالركود هو الذي هيّأ لهم التربع في صدر هذه القافلة, وما أنْ تتحرك حتى تضعهم الحركة في ذيل القافلة، فالحركة والتأرجح اختبار صعب لهم؛ لأنهم كفرقة المنشد يُجيدون فنّ الإعادة فحسب، وهذا الفن من شروطه الثبات والركود، فحين تشيع الحركة كخيار يخنس الركود والثبات والمنضوون تحت رايته، أو هكذا يُخَيّل لي.