لم يدر بخلد من أوقدوا شرارة الثورة في مصر أنهم سيزيحون نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، وأن الدكتور محمد مرسي سيحكم أرض الكنانة بعد الثورة، لكنها الثورات يبدأها متهورون، ويديرها أبطال، ولنا أن نصفق للجيش المصري كثيراً على إدارته الثورة حتى يسلم مصر الجديدة، وليس فقط الجمهورية الثانية لرئيس انتخبته مصر كأول رئيس يأتي بانتخاب حر ومباشر في تاريخها. تعلمنا من التاريخ أن الأفكار تقود الثورات، وأن الأيديولوجيات هي خميرة الخروج على الأنظمة، لكن الثورة المصرية بدأت بنبض الشارع، ثم تمت أدلجتها من حركات عملت منذ عقود على ترسيخ ثقافة التنظيم وأدواته السياسية والتعبوية، وكانت تنتظر الفرصة، وقد كانت أكبر المستفيدين منها. ولكن ما يطمئن أطياف الشعب المصري أن نبض الشارع مازال قادراً على التغيير، فإما أن يحكم فيه الرئيس المنتخب بما يحقق رغبة الشارع ويتناسب مع تضحياته وإلا فإنه سيعود مرة أخرى لميدان التحرير. التحدي الذي يواجه الرئيس المصري المنتخب الدكتور مرسي يتمثل في الخلاف الأيديولوجي مع نسبة كبيرة في الشارع المصري، وعليه أن يتجاوز ذلك وأن يخرج من عباءة الحركة والحزب إلى فضاء مصر جميعه، مسلمين، ومسيحيين، محافظين وليبراليين، دعاة وفنانين، وأن لا يجعل له مرجعاً غير الدستور ومصالح مصر العليا. أما إذا أصر على أن يحكم من خلال مرجعية الحركة فإنه لن يستطيع إرضاء رموزها وفي الوقت ذاته استيعاب نصف الشعب المصري الذي لم يصوت له. وعندما نتحدث عن الحركة فإننا لا نختزل الإسلام في الإخوان، لأن ذلك وهمٌ يحاول البعض تسويقه وكأن من يختلف مع فكر الإخوان يختلف مع الإسلام ذاته. أحدهم مرة نصحني وأنا في طريقي للقاهرة بكلمات خمس (متدقش، واعمل نفسك مش داري)، واعتبر وصيته تذكرة مرور للاستمتاع بمصر؛ الرئيس بحاجة إلى جهود كبيرة لتغيير الثقافة السائدة، فقيم الإنتاج واحترام النظام والمسؤولية والشفافية والمحاسبة إذا تكرست في المجتمع المصري سوف تساعد البلدان التي تعتمد على العقول والعمالة المصرية المهاجرة في مختلف التخصصات والمهن على أن تكون مصر هي الخيار الأول لتغطية حاجتها من العمالة المؤهلة ليس مهنياً فقط وإنما لديها مهارات وأخلاقيات عمل منافسة تضيف لمجتمع العمل قيمة مضافة قادمة من مصر هذه المرة. الشعارات تحرك الشارع، ولكنها لا تطعمه خبزاً، وتحرق الشعارات الأكف بحرارة الحماس ولكنها لا توظف شاباً يبحث عن عمل. والوعود القائمة على افتراض ما لدى البلد من إمكانات غير قابلة للتحقق بمجرد تولي منصب الرئاسة وإنما يتطلب ذلك عملاً طويلاً. مصر بيئة حاضنة للأفكار وقادرة على استقبالها والتفاعل معها لأن الشعب المصري شعب عاطفي ومرن، تؤثر فيه الشعارات، وإذا رفع الرئيس المنتخب وحكومته شعار الإنتاج وأعلنوا ثورة على "السح الدح أمبو" و"الفهلوة"، و"الفوضى" فإنهم يستطيعون تغيير وجه أم الدنيا ومعها الدنيا المحيطة بها. سيجد الدكتور مرسي دعماً لا محدوداً من تنظيم الإخوان العالمي. ومع يقيني بأن فكر الإخوان المسلمين لا يؤمن بالوطن بقدر إيمانه بالأمة، فإن المواطنة والهوية المصرية القوية جداً لن يستطيع أحد القفز فوقها وعليه التعامل معها بحساسية شديدة. أما الملفات الخارجية التي تواجه فخامة الدكتور مرسي فإنها لا تقل أهمية عن تعقيدات الداخل، فالمعاهدة المصرية الإسرائيلية نافذة، والارتباط والتعاطف مع القضية الفلسطينية في ازدياد، كما أن المجتمع الدولي يماطل الحسم في الأزمة السورية ومن أسباب تلك المماطلة انتظار ما تسفر عنه الانتخابات المصرية، ووجود مصر قوية تدعم الموقف العربي لإنقاذ الشعب السوري مهم جداً، ولكنها كما أعتقد لن تكون مصر التقليدية التي تبصم للولايات المتحدةالأمريكية على بياض في العلن، كما أن الرهان على توازن المنطقة بالتقرب من إيران مخالف لأبسط منطلقات الأمن العربي. مصر جديدة، وخطوة أخرى أقرب إلى نظام عالمي يتشكل، ومن المبكر الحكم من خلال خطاب النصر، كما أن الحكم بناء على أمنيات المعجبين خصوصاً من خارج القطر المصري سيكون مهيناً بحق المصريين الذين لديهم تطلعاتهم الخاصة ولا يعنيهم في شيء أن يرقص شيخ أو شاب طرباً في أية عاصمة مجاورة.