كان يجر عكازه الملول الذي ينوء تحت ثقل سبعين عاماً من الغربة، متأملاً البيوت التي تتناثر كالغيم مستلقية على صدر واكتاف الجبال الشاهقة، صاعداً الطريق الترابي الضيق الملتوي المكسي بالاخضر الطري. سبحان الله! أيها الوطن الذي لا يشيخ ابداً... قالها، وكأن شيئاً ما في داخله يوشك على الانفجار، مزيحاً سنوات الغربة الطويلة. كم كان يافعاً عندما وضع الزوادة وانطلق باحثاً عن شيء ما.. بظنه ان هذه الارض لا تملكه!!! هو اليوم، الطفل الذي يحلم بأنه اذا صعد الى اعلى السنديانة الشرقية (وهذا ما كان اسمها) يستطيع ان يمتطي ظهر غيمة! هاهي قمتها تبدأ بالظهور لتتفتح الشرايين وتتدفق سيول من الذكريات، وتنبثق آلاف من الينابيع في لحظة واحدة جارفة معها كل التعب والانهاك غاسلة القلب الصدئ المعفر بغبار خمسين عاماً من الغياب، صورة عجيبة تتراءى امامه، تبدو فيها ذات الضفائر الشقراء وخدود التفاح تحدق فيه بشغف ومثل كل مرة يلوح بكتبه بعيداً ليعانق كلبه الوفي (ابيض) وليتجه مسرعاً نحو السنديانة العملاقة التي تتجسد له الآن تماماً مثلما كانت، بل واعلى واضخم واكثر اخضراراً، كالعادة لم ينتبه لأمه التي تقف على باب الخوخ العتيق تتأمله كيف سيصبح طبيباً عظيماً وسوف تبيع كل صيغتها من اجل ان تزوجه (حورية) الشقراء التي كانت متأكدة انه مولع بها كل الولع ومن ثم ستجهز له الغرفة الاكبر في البيت ليسكن فيها وان اضطرها الامر ستبيع محبس زواجها لتشتري له مذياعاً فهو دكتور وهذه الاشياء التي لا تعرف كيف تعمل ضرورية لمثله. أما ابوه فكان يقول دائماً انه يوم يحصل على الاعدادية سوف يشتري له فرساً خاصة، حتى لو باع قطعة من الارض، وسوف يدرسه حتى يصبح طبيباً حتى لو باع كل ما يملك! بعد كل هذي السنين ومع انه اصبح طبيباً واستاذاً في الجامعة لم يكن يدرك ان طريقه الذي يبحث عنه هو من هنا وعبر هذه القلوب الطيبة التي احبته الى درجة الوله، وكانت على استعداد لبذل كل شيء من اجله، ومع ذلك خرج كما لو انه ذاهب الى مدرسة القرية المجاورة، تاركاً كل شيء خلفه يصفر ويتيبس كأوراق خريفية، اناني هو وقد حنث بكل ما وعدوا انفسهم به، وخان آمالهم فيه وعليه. وهاهو يرجع ابن العشر سنوات لم يتغير شيء فالجبال هي نفسها والطريق ما زال ضيقاً وملتوياً وهدوء عظيم يسود المكان وكل الاحبة ينتظرونه. كانت الصور تتسارع امامه مثل مطر غزير لا تترك له مجالاً ليلتقط انفاسه (فحورية) امامه بعينيها اللتين جمعتا لون السماء الشفاف بأخضر الريحان الداكن تراقبه من خلف الجدار الطيني المتآكل والذي كان في تلك الايام يحمي اكثر من اعلى الاسوار المكهربة والحديدية والمسلحة وغير المسلحة.. فجأة، وجدها تخرج وتقف الى جوار والديه وكلبه (ابيض) ولم يكن أحد منهم يتحرك باتجاهه كانوا فقد يدعونه للقدوم اليهم، بوجوه نضرة لم يعهدها في بشر من قبل. كالعادة قذف بكتبه بعيداً وانطلق نحو السنديانة عله هذه المرة ينجح باعتلاء الغيمة التي بحث عنها منذ اكثر من ستين عاماً والجميع كالعادة ينظرون اليه بترقب - وربما بغصة - فبعد كل هذي السنين ربما كانوا على شك مما يرون او هكذا ما تراءى لعينيه المرهقتين الضعيفتين وعقله الباطن المهزوم من الداخل. - لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! - هل يعرف أحد هذا الشيخ؟ - اتصلوا بسيارة الاسعاف. - لا فائدة أعتقد انه فارق الحياة! - إنا لله وإنا اليه راجعون.. رحمه لله كائناً من كان!!. تطل غيمة سوداء يسبقها ضجيج هائل ثم تخرج منها اخرى بيضاء وعليها رسم هلال باللون الاحمر وتكتمل حوله حلقة من الدراجات النارية المزينة برايات القراصنة (الجمجمة والعظمتان) التي تجتمع بسرعة غريبة عندما يحدث شيء ما نادر كجثة هذا الشيخ. كان الشباب الواقفون والحاملون هموم الوضع العام لدرجة انهم يرتدون سراويلاً من الجينز المقطع ويعبرون عن سخطهم بأن يرخوا شعرهم مثل البنات يتأملون هذا الشيء بدهشة شديدة، بل واستهجان، واغرب ما سمعته من تعليقات هو ما قاله أحدهم: يبدو ان هذا العجوز قد سقط سهواً من قمة هذه السنديانة!!!! كان العكاز ملوحاً قبل الشجرة ببضعة أمتار، اما هو فيحتضنها بطريقة غريبة فيها معانقة المشتاق او لجوء الخائف او ربما محاولة الصعود!!!!. ربما يكون قد امتطى غيمة وربما سيعود بعد حين لانه ما زال يعتقد ان الوطن اخضر والبيوت تتناثر كالغيم والارض تعانق القلوب الطيبة والجدران من الطين السميك والحنون، واشجار الزيتون بازدياد، والعصافير تحلق في اقل الارتفاعات. (حورية) كما هي طاهرة وبريئة مثل شمس الصباح بخدودها الندية الخالية من المساحيق وشعرها سنابل من ذهب فهي كما عرفها لا تستخدم السيشوار ولا تتابع (السوبر ستار)؟؟؟؟ صعد الى حيث صعد وهو يعلم انه على الاقل لديه (ابيض) الوفي. ولكنه لم يعلم كم تأخر!!! ولم يعلم ايضاً ان البيوت اضحت تبنى بالاسمنت الخالي من أي حياة كما ان (ابيض) قد مات!!!!!