كيف يتم إنتاج السياسي وكيف يتم استقباله؟ هو سؤال يرتد إلى مسألة المدارك الذهنية واختلاف مستويات التعامل معها. إن الظاهرة الإدراكية ملازمة للكلام التداولي في كثير من لحظات استعمال الإنسان للغة، وهي ملازمة أكثر للكلام الأدبي لأنه خصيصة من خصائص شعرية اللغة، لكن الذي بدا لنا ثم ارتسخ حتى غدا قناعة حميمة على طول التردد واطراد الحيرة هو أن خير ما يجسم هذا البعد الإدراكي بين أبعاد الظاهرة اللغوية - أيا كان نمط اللسان الذي تتشخص به - إنما هو القول السياسي. في الأغلبية الغالبة من الأحيان عندما نكون حيال القول السياسي ولا سيما في لحظة مباشرته الأولى أو في لحظة انشائه والإصداح به نبحث عن المعنى فنكتشف أنه لا يوجد في البناء النحوي للكلام، ولا في دلالة الألفاظ المعجمية، ولا يوجد في السياق التركيبي بين الجمل السابقة والجمل اللاحقة، ولا هو موجود في المقام التداولي باعتبار الروابط العالقة بين المتكلم والسامعين، ولكنه يوجد خارج الحدث اللغوي التواصلي تماماً، وسنقول - بشكل مبدئي وعام - إنه يوجد مبثوثاً بين شاشة الأحداث الجارية وخزانة الوقائع الماضية، فهو مزروع على أرض الذاكرة السياسية المتحركة، إنه يثوي بين حقيقة تاريخية مضت وحقيقة تاريخية تريد أن تنشأ. ليلة 1/12/1999م اجتمع في مدينة سياتول الأمريكية رؤساء 137 بلداً فيما سمي بقمة المنظمة العالمية للتجارة التي بعثت في لقاء وزراء التجارة من 120 دولة في مراكش في 15/4/1994م، وبدأت تشتغل فعلياً في أول عام 1995م فخلفت ما كان يعرف بالجات التي هي الاتفاقية العامة على التعريفات الجمركية والتجارة، والتي يعود تأسيسها إلى عام 1947، وتعود بداية اشتغالها إلى أول عام 1948، وكانت اتفاقيات الجات كالنسي المنسي منذ ذلك العهد إلى أن تم تبنيها من طرف 117 دولة في جنيف بتاريخ 15/12/1993 والعالم كله قد بدأ يترسم حركاته على إيقاع النظام العالمي الجديد كما بلوره الرئيس بيل كلينتون على مدى الأشهر الأخيرة من عام 1992 عند حملته الانتخابية قبل أن يدخل البيت الأبيض. في سياتول كانت النخوة بالغة بالأمريكيين ذروتها، وكانوا يستعدون لاحتفاء عظيم يكرس على مدى الأيام الثلاثة الأولى في آخر شهر من 1999 تفوقهم في صنع القرار وانفرادهم في الإمساك بعنان الشأن الدولي، وكان الزهو كثيفاً لأن قائمة الدول المترشحة للالتحاق بالمنظمة العالمية للتجارة قد بلغت يومها 31 دولة، ولأن المنظمة قد سبق لها أن عقدت قمتين مرتا بسلام تام، الأولى في سنغافورة (9/12/1996) والثانية في جنيف (18/5/1998) وكانت المفاجأة التي لم تقرأ لها الإدارة الأمريكية أي حساب ولم تحدس بها أجهزة الاستخبار من حولها: الانتفاضة الشاملة التي طوق فيها خمسون ألف متظاهر مدينة سياتول ومقر لقاء القمة، وعمت الفوضى في ذلك اليوم عواصم أخرى ولا سيما لندن حيث أعلنت حالة الطوارئ فعلياً في سياتول. في لحظة الغضب الجماهيري تلك خرج بيل كلينتون ليقول للمتظاهرين قولة مختصرة قال لهم: «قد فهمتكم» ولذَّ لجلِّ أجهزة الإعلام - ولا سيما الفرنسية منها - أن تكرر في نشرات أخبارها، على مدى الأيام، تلك الجملة بإيقاعها عندما يترجمها المترجمون إلى لغة وكالاتهم، إنها جملة من أبسط ما يفوه به أي متكلم في الدنيا عند أي لحظة من لحظات التداول «قد فهمتكم» ولكنها هنا قول سياسي، فاه به رجل سياسي، في لحظة هي من أعسر ما يعرفه العمل السياسي، ولذلك فهي قول يشف عن ساعة امتحان عويص لا سيما وأن كل العالم مشرئب بأعناقه إلى ذلك الحدث وإلى الأسلوب الذي سيتوسل به القطب المنفرد لمعالجة الصدمة القصوى. إذا أخذنا هذا القول على ظاهره فقد لا يعني شيئاً هاماً لأنه لا يعدو أن يكون كلاماً صادراً عن قائد ارتبك فجأة من قبضته زمام أمره ففاه بما قد يسترضي جميع الغاضبين. وهذا نهاية ما يفيدنا به القول مهما قلبناه على وجوهه التركيبية النحوية، والدلالية المعجمية، والسياقية النصية، والمقامية التداولية، أما إذا أردنا البحث عن المعنى في ذلك البعد الإدراكي والذي هو كامن في مستوى ما فوق السياق، أو هو ثاو في ما وراء المقام، فسنعثر عليه ضمن حيثيات قرائنية أخرى هي تلك التي منها يتكون العرف السياسي، وبها يتم تأثيث معمار الذاكرة السياسية الجماعية، وما لم ننتبه إلى تلك الواجهة الخلفية أو لم يكن لنا التهيؤ الثقافي لاستيعابها فسنظل خارج دائرة المعنى من حيث هو سياج المقاصد، وسيظل الفهم ملتبساً التباساً فظيعاً، وفظاعته وافدة من أن كلا الطرفين على يقين قاطع بأنه هو الفاهم، وأطرف ما شاهدنا في هذا الذي نسوقه أنه دائر على مسألة الفهم «قد فهمتكم». من المفيد أن نعرج هنا على خصيصة جزئية تصل بهذه الكلمة الواردة على صيغة الفعل فهم، يفهم. إنه فعل يتعدى في اللغتين الفرنسية والإنجليزية إلى مفعول متنوع يمكن أن يكون موضوعا للإدراك المجرد، ويمكن أن يكون ذاتا آدمية، فتقول فهمت الشخص، وعلى هذا الباب جاءت القولة «قد فهمتكم» أما في العربية الفصيحة فلم يرد في الاستعمال الأثيل أن هذا الفعل يتعلق بالذوات إذ لم يكن واردا أن يقال فهمت فلاناً، وإنما الفصيح: فهمت الشيء، وفهمت عن فلان، وأفهمت فلانا وفهمته الأمر. من جديد ينبري السؤال حاداً ملحاحاً: كيف يتدقق الإدراك في مسافة ما بين اللغة والسياسة؟ بل كيف يختبئ المعنى خارج اللحظة التي قيل فيها، ففي يوم من الأيام كانت الثورة الجزائرية في أوجها بعد مضي أربع سنوات على اندلاعها في 1/11/1954، وكان الفرنسيون متعلقين جميعا بوهمهم وهو أن الجزائر قطعة من وطنهم الفرنسي، وكان التصدع قد طال مؤسسات الدولة حتى تعطلت، وكان العسكريون في الجزائر يستنجدون بالوطن الأم ويستغيثون بشارل دي غول أن ينقذهم وأن ينقذ «الجزائر الفرنسية» حسب ندائهم، وكان جل الفرنسيين يهيمون بالرجل المنقذ، وفي يوم 13/5/1958 اندلعت ثورة كبرى بين صفوف الفرنسيين في الجزائر وحرب التحرير في أوج انتصارها. رتب دي غول بيته سريعاً وسافر إلى الجزائر يوم 4/6/1958 وخرج إلى كل الجموع وأطلق خطابه الذي هو - في قناعة الجميع - موجه إلى الفرنسيين المستنجدين به بين مدنيين وعسكريين، ورفع دي غول من أعلى المبنى المهيأ له كالمنصة يده اليمنى وفتح ما بين الإبهام والوسطى مجسما الحرف اللاتيني الذي هو الحرف الأول من كلمة الانتصار، والذي غدا رمزا في كل لحظات النضال وفي كل ساعات المواجهة، وقال قولته الشهيرة «قد فهمتكم» فغدتا مثلا منقوشا على دفاتر السياسة الكونية، صفق له الجميع وكان العسكريون أول المبتهجين، ثم عاد وسيطر على الموقف وهيأ محادثات ايفيون وحصلت الجزائر على استقلالها في 3/7/1962 فما معنى: قد فهمتكم؟ كلمات القول واضحة وتركيبه النحوي من أبسط التراكيب، فهل يكمن المعنى في سياق النص؟ أبدا، وهاهو السياق: «لقد فهمتكم، إني على علم بما قد جرى هنا، وإني أتبين ما كنتم تنوون فعله، وأرى أن الطريق الذي فتحتموه في الجزائر هو طريق التجديد والإخاء». فهل يكمن المعنى في العلاقة التداولية بين المتكلم وسامعيه؟ قطعا لا، فما كان دي غول عازماً على إنجازه مناقض لما كان السامعون ينتظرونه ويشرئبون إليه، فهل تناقض صاحب القول فوعد ثم أخلف وعده؟ أيضا لا، فكلامه كما أوردناه بسياقه لم يتضمن اي التزام بمقاصد الفرنسيين من عسكريين ومدنيين. إن المعنى واقع خارج حدود القول، وخارج حدود الزمن الذي قيل فيه، إنه كامن في الزمن القادم، أي في اللحظة التي ستحل بعد أربع سنوات، وحين خاطب بيل كلينتون جموع الثائرين على العولمة وعلى رمزها الاقتصادي الأكبر: المنظمة العالمية للتجارة، فقال لهم: قد فهمتكم، كان متعينا ألا يؤخذ القول على معناه التداولي المألوف وإنما يؤخذ على دلالته فوق المقامية، والدليل أن بيل كلينتون بعد أن أرسل جملته تلك خاطب جموع المشاركين في القمة وقال: «إن دخول هؤلاء الغاضبين خارج القاعة إلينا سيعمق الحوار، وسيعين على اقتناع الناس بجدوى سياسة المنظمة العالمية للتجارة» فردد بذلك القالب الديغولي المنقوش في الذاكرة الإنسانية وكان يعني أنه سيفعل مع المحتجين المتظاهرين ما فعله دي غول مع العسكريين الفرنسيين في الجزائر. قولة دي غول أصبحت إذن تجري مجرى الأمثال.