إن اللغة هي جسر التفاهم، وسبيل التواصل بين أفراد الشعب الواحد والأمة الواحدة، والانسلاخ منها وإهمالها يفتت الشعب الواحد إلى ألسنة شتى، تتناكر ولا تتعارف الآن.. وبعد تعدد المؤتمرات الوطنية والعربية والعالمية عن اللغة العربية وأحوال الناطقين بها هل نأمل خيراً. ونرى أثراً مما ترجوه هذه المؤتمرات، وينشده الحاضرون فيها. إن مما أكدته دائماً. وكررت الحديث عنه - ورآه معي آخرون - هو أن بقاء أية أمة مرهون بقدرتها على تناقل مقوماتها من العقيدة والأخلاق والتاريخ والثقافة بلغتها عبر أجيالها الشابة وان إهمال استعمال اللغة هو مقدمة طبيعية لفناء الأمة أو استئصالها، بينما تمثل محبتها للغتها، والحرص عليها، وتنقيتها واستخدامها لغة للعمل، والعلم والإعلام والتعامل اليومي بها، ورفع العامة والخاصة إليها واجب لبقاء الأمة، أما عندنا فهو واجب أكثر قدسية فلغتنا العربية هي اللسان المبين للعقيدة، اختارها الله سبحانه لمخاطبتنا ومخاطبة العالمين معنا، ومخاطبة الأجيال من بعدنا، ولقد قيل بحق: إن اللغة هي منزل الكائن البشري، وإن اللغة هي التفكير نفسه، وإن التفكير ذاته نوع من الهمس اللغوي غير المسموع الذي يدور بين المرء ونفسه، وأنه نوع من الحوار الباطن. ✺✺✺ إني لأخص الشباب بالحديث إذ هم العمر الطويل - إن شاء الله - الناهض بقدرة على تحقيق ما يجب المحافظة عليه وتحقيقه. فما معنى الشباب؟ يقال شب الغلام: أي أدركه طور الشباب، وشبت النار شبوباً: أي توقدت، وشب الفرس شباباً وشبوباً أي نشط ورفع يديه، والشاب: من أدرك سن البلوغ إلى الثلاثين، والشباب الفتوة، والحداثة، وشباب الشيء أوله. وقد روي أنه قيل لمن بلغ خمس عشرة سنة: إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فقال من قيلت له: فجعلت هذه الوصية قبلة أميل إليها ولا أميل عنها. ورجاؤنا من شبابنا أن يكون هكذا، وكما هو المأمول فيه، معتزاً باللغة العربية حامياً لها، ومتمكناً منها. ✺✺✺ إن اللغة هي جسر التفاهم، وسبيل التواصل بين أفراد الشعب الواحد والأمة الواحدة، والانسلاخ منها وإهمالها يفتت الشعب الواحد إلى ألسنة شتى، تتناكر ولا تتعارف كما يسد الأبواب إلى ثقافته، وأتذكر أنني قرأت لأحد الأدباء العرب منذ عدة سنوات أنه لما كان يدرس في فرنسا قرأ كتاباً لأديب فرنسي يدعى «إتيامبل» بعنوان: هل نتكلم الفرانجيلية؟ (أي الفرنسية مخلوطة بالإنجليزية)، وكان يحمل في كتابه هذا حملة شعواء على من يتكلمون الفرنسية مختلطة ببعض مصطلحات إنجليزية، بينما كان لا يتجاوز عددها مئة مصطلح!! ثم استطرد الأديب مستشهداً على خطورة التأثير اللغوي بامتداد آثاره إلى المجال الاقتصادي بنص مشهور للرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو يتناول فيه الطلبة الأجانب الذين يدرسون في فرنسا يقول: (علموهم الفرنسية ليشتروا بضاعة فرنسية)!! المهم ان هذا الأديب العربي كتب لأسرته في وطنه يقول: (ابعثوا إليّ الكتب العربية فأنا في خطر!). فالرجل أحس بالحصار اللغوي، وأن هذا الحصار تمهيد للقضاء على شخصيته وعقيدته وإنتمائه. ولقد صدق! فحينما تتهاوى اللغة تتساقط معها أعمدة العقيدة والتاريخ والثقافة في شخصية الفرد والشعب والأمة، والآن فإن الأخطار على اللغة تداهمنا من فوق رؤوسنا، ومن تحت أرجلنا، وعن إيماننا وعن شمائلنا، فقوى البث باللغات الأجنبية تتزايد من مختلف قنوات التلفاز العالمية، وتقتحم لغة التعليم في كثير من المدارس والمعاهد والجامعات في مختلف البلاد العربية، ويتسرب المزيد من المصطلحات الأجنبية في لغة التعامل اليومية حتى تكاد تحاصر لغتنا في مواطنها الأصلية، إضافة إلى لغة التواصل الاجتماعي الإلكترونية الجديدة. ✺✺✺ إن دعوتي لكل فرد في الأمة العربية ولكل جهة تعليم أو إعلام ان تغرس حب هذه اللغة المقدسة لدى أجيالنا من الشباب والشابات، وأن يعزز المتخصصون تلك المحبة بمناهج لغوية عصرية جذابة، وبمعلمين مخلصين أكفاء، وان يعمل الجميع جاهدين على رفع مكانتهم أدبياً ومادياً بعد اختيارهم من خيرة العناصر علماً وخلقاً وان تشارك أجهزة الإعلام ببرامج مكثفة جذابة لتعليم اللغة. ومن باب تأكيد مكانة اللغة وتقريب فرص الابتكار، تيسير تلقي العلوم في مستوى الدراسات الجامعية والعليا باللغة العربية، بما يقتضي خطة طموحة لإنشاء مؤسسات الترجمة المستمرة العلمية والأدبية على المستويين الوطني والعربي. ✺✺✺ لقد استطاع الصينيون واليابانيون والكوريون ان يترجموا العلم الحديث ويتابعوا تطوراته بلغاتهم المعقدة الصعبة، حدث هذا في اللغة اليابانية، بينما تصل حروفها إلى ما يقرب من عشرة آلاف حرف، وبينما تبلغ حروف الصينية عشرات الألوف!! ✺✺✺ لقد استطاعت شعوب لا يزيد تعدادها على بضعة ملايين نسمة كالشعب الدنماركي والنرويجي، والأيسلندي، واليوناني أن تستخدم لغاتها المحلية في الجامعات. فهل نعجز وتعجز لغة حملت حضارة العالم أكثر من أربعة عشر قرناً، ومهدت لحضارة الغرب بتسليمها تلك الحضارة عبر باب الأندلس، الحضارة التي يرثيها الكاتب الفرنسي أناتول فرانس، ويحزن لهزيمة المسلمين العرب في (معركة بواتييه) فيعد عام الهزيمة أحلك يوم في التاريخ! (حينما تراجع «العلم» و«الفن» و«الثقافة العربية» أمام همجية الفرنجة. انظر وتأمل!! ✺✺✺ هل تعجز لغتنا حقاً عن تدريس العلوم بلغتها في مدارسنا وجامعاتنا؟!! لا والله.. وإنما ما حدث هو نتيجة تخاذلنا ولا مبالاتنا بها. أفلا نغار على لغتنا.. لسان عبادتنا.. كما غار هؤلاء على لغتهم!! إن أملنا في شبابنا أن يسددوا خطاهم، ويتلافوا ما أهملته الأجيال السابقة عليهم وأن تعود اللغة العربية - على يديهم - إلى ما كانت وما هي أصلاً عليه من قوة وصحة استعمال في كل المجالات. ✺✺✺ وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد. (يتبع)..