لم يفهم "نصوح" ما هو سر انتهاء راتبه الشهري قبل نهاية كل شهر، يتبعه ديون من الآخرين تنتظر راتبه المقبل، فكل ما يعرفه أنه يلتزم بمصروفاته الأسرية المحددة، وجزء من المال مخصص لمصروفات الإفطار الجماعي مع زملائه في العمل.. ولكنه يعاني من إنفاق راتبه دون أن يفهم كثيرا سر ذلك التسرب الخفي في ماله دون إنفاق كبير. اعتاد "نصوح" أن يأتي متأخراً إلى عمله بعد أن يكون قد قضى الساعات الأولى من عمله وهو في المنزل؛ حيث يُنهي بعض الأعمال المتعلقة بأبنائه وزوجته، وحتى حينما يأتي إلى عمله يقضي بقية الوقت المتبقي من ساعات الدوام في الحديث عن أهم القرارات المتوقع أن تصدر في محيط دائرته الحكومية، وربما تطرق في ثرثرته إلى أسباب ارتفاع أسعار الحليب والألبان، ومدى معاناته مع مشتريات البيت، ولا ينسى أيضاً أن يتطرق إلى بعض أخبار زملائه في الأقسام الأخرى، الأمر الذي جعله يعمل مفتشاً متجولاً أثناء الدوام لكي يلتقط مستجدات الأخبار، ولا يمنع أن يخرج إلى الكافتيريا المقابلة لعمله من أجل أن يتناول طعام إفطاره.. وأخيراً إذ فرغ صبر الجميع من الاستماع إليه.. فتح شاشته الصغيرة باحثاًً عن أهم الأخبار السياسية عبر مواقع "النت" و"الصحف"؛ لعلّه أن يجد موضوعاً شيقاً يستفز به اهتمام زملائه المنهمكين في أعمالهم.. ولا يخجل أن يخرج قبل انتهاء دوامه إلى بنصف ساعة إلى "سوق السمك" لكي تصنع له زوجته غداءً فاخراً، دون أن يتنبه للمعاملات المتكدسة فوق مكتبه لمراجعين أصابهم الملل والغضب جراء تأخير إنهاء إجراءاتهم، فانهالوا سباباً على تلك الدائرة الحكومية، ووصفوها بالإهمال وهي بريئة من أفاعيل "نصوح" صاحب الروتين اليومي أعلاه.. ولا "يحلّل راتبه"!. يتصف بعض الموظفين بغياب الضمير الرقابي على أدائهم الوظيفي، فيعتقدون أن من أهم حقوقهم نزول راتبهم الشهري في حسابهم البنكي، ولكنهم ينسون أن ما هو أهم من الحصول على الراتب هي "الأمانة في استحقاق ذلك الراتب الشهري" المُقدم جزاءً للجهد المبذول، وليس أن يقل الجهد، ويضعف الأداء دون أن يجد من يوقظه لكي يتأمل في أمانة وحُرمة ذلك المال، وهم لا يؤدون أعمالهم الوظيفية بشكل جيد وحقيقي، ولكنهم يطلقون لأنفسهم العنان باستحقاق المرتب والتمتع به!. لا يقلّ انتاجك لأنك محبط أو جهدك غير مقدّر وزملاؤك أكثر راتباً ازدواجية وظائف في البداية، أكدت "أمجاد القحطاني" على أن كثيراً من الأسباب قد تدفع الموظف إلى الإخلال بمسئولياته تجاه عمله، وعدم تحليل مرتبه، مشيرة إلى أن أكثر الأمور التي تشغل الموظفات -خاصة في القطاعات الحكومية - هو انشغال الموظفة بعمل آخر رديف لوظيفتها -على حد قولها-، مستشهدةً بزميلتها حيث تعمل كموظفة في قسم التسويق، ولكنها ترتبط بجهة عمل أخرى، كمُسوقة عبر الإنترنت، وتحصل على ذلك العمل قدراً من المال كنسبة أو عمولة تزيد بازدياد اجتهادها في الحصول على مشترين جدد، حتى أنها أصبحت تعمل على جهاز الكمبيوتر لصالح تلك الشركة من مقر وظيفتها الحكومية؛ حتى لاتضيع وقتاً في الحصول على عمولة جديدة؛ مما أثر كثيراً على إنتاجها في الوظيفة الأساسية. وأكدت أمجاد بأن هناك حساً أنانياً لدى مثل هؤلاء الموظفين حيث يعتقدون بأن من حقهم البحث عن فرص متعددة في الحياة حتى إن كانت على حساب عمله الأساسي الذي تتقاضى منه أجراً ثابتاً، فثقافة الأمانة غائبة بل إن هناك من يحسد الموظف المثابر على ذلك الأداء لأنه يشعر بأنه غير قادر على الوصول لذلك التفاني في العمل . تعدد مُلهيات واتفقت معها "البندري خليفة" تجاه إنشغال الموظف في مهام خارجة عن محيط العمل، مبينةً أن كثيراً من المغريات أصبحت تتسبب في إنشغال الموظف عن أداء مهام عمله، ومن أهمها "النت"، حيث أصبح يتوفر بسهولة عبر أجهزة الجوال، ووسائل التقنية الأخرى مثل الحواسي الكفية؛ حتى أصبح الموظف مُنشغلاً جداً إما في مواقع "النت" أو في الدردشة مع الأصدقاء عبر "البلاك بيري" و"واتس آب" وغيرها. واستشهدت بحالة موظفة دائماً ماتتحدث عبر الهاتف مع صديقتها بخصوص جديد البرامج وكيفية تحميلها في جهاز الجوال، على الرغم من أنها تعمل مراقبة أمن في إحدى الشركات الصحية الهامة؛ مما يجعلها تغفل عن مرور الزائرات؛ لفرط انشغالها بهاتفها، بل وحتى عندما يتصل عليها موظف الحراسة، فإنها بالكاد تجيبه، وتتعذّر بانشغالها بشدة الازدحام وانهماكها بالتفتيش!. واقترحت إيجاد دورات للموظف الجديد عند قبوله في أي وظيفة حكومية كانت أم خاصة، حول أهم الملاحظات والأخطاء المتوقع أن يقع فيها الموظف نتيجة لتساهل، لافتةً أن البعض لا يعرف أن سلوكياته في نطاق وظيفته تحدد مدى إهماله من التزامه، وبالتالي مدى "تحليل راتبه". جانب نفسي وترى "نجيبة سعد" أن الجانب النفسي له دور كبير في إقبال الموظف أو الموظفة على العمل، مبينة أنها على الرغم من أنها تحب وظيفتها كموظفة استقبال في قسم نسائي، إلاّ أنها كثيراً ما تشعر أن جهدها غير مُقّدر كما يجب، إلى جانب أن الفرص الذهبية تُقّدم لزميلاتها على طبق من ذهب، بينما يهُمل جُهدها ظُلماً، حتى أصبحت موظفة متقاعسة، ولا يهمها كثيراً أن تنتج، بل ازداد الأمر سوءاً إلى أن أصبحت تتأخر كثيراً وغيابها ملحوظ، وأصبح الأهم لديها حصولها على الراتب نهاية الشهر، متسائلةً "مافائدة الالتزام بالعمل وأنت مظلوم وغيرك يحصل على أكثر منك؟". وأشارت إلى أن الموظف يؤثر كثيراً عليه الجانب النفسي، ويدفعه للإهمال بسبب قلة التقدير من قبل المدير، موضحةً أنها تحاول كثيراً أن تُحفّز ذاتها؛ إلى الرجوع للاجتهاد من جديد في أدائها، ولكنها تشعر أن بيئة العمل غير العادلة لا تُحفّز. أثر سلبي وذكرت "اعتدال عبدالرحمن" أن للظلم آثاراً سيئة في القطاع الوظيفي، مما جعلها لا تبادر في تحسين مهامها العملية، وتسعى إلى تطوير أدائها؛ كونها ترى كثيراً من زميلاتها لا يعملن بشكل جيد، ويُضعن أوقاتهم أثناء الدوام الرسمي بالانشغال في أمور غير مُجدية، حتى ظهر لديها شعور أن تكون مثلها مثل الباقيات، موضحةً أن زميلات العمل لهن دور في خلق التنافس، ولكنها ترى أن الفاشل مُقّدر دائماً حتى أصبحت تشعر أن تنافسها الحقيقي ليس في اجتهاد المجتهد بل في منافسة الفاشل على فشله، منوهةً أن مسئولية ذلك تعود إلى مديرة القطاع عندما تتساوى لديها محفزات العمل، حتى أصبحت ثقافة النوم وقلّة الانتاج هي السائدة. وعي وظيفي أكد "د.صالح العقيل" -مستشار اجتماعي- على أن أي عمل يعمل به الإنسان حتى إن خرج عن الحدود الرسمية للوظيفة كالبائع مثلاً، ويحصل من خلال هذا العمل على قدر من المال، ولا يؤدي عمله بشكل جيد، فإنه يخرج عن الأمانة المقتضاة للحصول على ذلك المال، مشيراً إلى أن المشكلة الحقيقية تكمن في عدم وعي الموظف بما هو مطلوب منه، فكثير منهم يعتقد أنه بمجرد خروجه من البيت إلى مقر عمله هو بمثابة تأدية الواجب عليه، فثقافة الموظف لها دور كبير في نظرته للأمانة الوظيفية، بصرف النظر عن آلية التعاطي مع الموظفين، ومع واجبات العمل، فيوجد من يؤجل المعاملات ليوم أو يومين، وذلك ضعف في الأداء، ولذلك يجب أن يكون نظام العلاوات والحوافز قائم على الأداء وليس على الحضور. وانتقد مايسمى ب"الضبط الذاتي" لدى الإنسان، موضحاً أن كثيراً من أفراد المجتمع غائب عنه الضبط الذاتي في حين يبرز الضبط الخارجي عليه، فكلما زاد الضبط الذاتي لدى الإنسان؛ زاد إيمانه بمعايير الجماعة، فالموظف، أو البائع، أو أي فرد يحصل على هذا الرزق، إذا زاد لديه الضبط الذاتي في الأداء؛ نجد لديه الأمانة، وبالتالي أصبح العائد المادي فيه بركة، مبيناً أن الأغلبية لديهم ضبط خارجي أكبر؛ خوفاً من رئيس، أو من رقابة، وليس لأنه لابد أن يؤدي عمله على أكمل وجه؛ حتى يبارك له الله -عز وجل- في هذا المرتب. وذكر أن وجود مثل تلك الثقافة جعل من المجتمع شبه مثالي، إلاّ أن كثيراً من الأشخاص يؤدونها خوفاً من الآخرين -رؤسائهم-، مما يدعو إلى تعزيز مفهوم "الضبط الذاتي" أكثر من الخارجي، وذلك ما ينطبق حتى على طالب الجامعة في الاجتهاد بالدراسة لحصوله على مكافأته، وعلى الطبيب حينما يلاحقه مسئول ليزور مرضاه، أو يلتقيهم، موضحاً أن الإرادة موجودة، وهي جزء من ثقافتنا الإسلامية والاجتماعية، متسائلاً عن من يُطبقّها ويتعامل بها، لافتاً أنهم قلّة وهم المنتجون، مما جعل بعض الدول تتصدر صفوف الدول المنتجة لأن يوجد أمانة في التعاطي مع العمل، وهي الثقافة الغائبة عن بعض الموظفين، الأمر الذي محق بركة مرتباتهم نظراً لغياب أماناتهم في أداء أعمالهم، وعرضهم لكثير من الضغوط المالية والأزمات حتى حلول راتب الشهر الآخر. وشدد على ضرورة وفقاً لمفهوم "الضبط الذاتي" الحرص في تعاملاتنا مع الآخرين، أما من يتحايل على النظام بعدم إعطاء الوظيفة حقها؛ فإن ذلك سينقص من بركة ماله، داعياً إلى عقد دورات تعزز مفاهيم الانضباط والرقابة الذاتية في أداء العمل، قائلاً "ليس المهم حضورك فقط، بل ماذا تنتج في حضورك.