أرخى الليل سدوله، عمَّ سكون في أرجاء القرية، جلست على كرسيها الخشبي... بعد عناء يوم طويل استرجعت الذكريات حلوها ومرها - آه... كيف بنا نرحل من ديارنا وقد عشنا بها سنين؟ وإلى أين يكون مآلنا؟ ومن سيؤوينا؟ تساؤلات كثيرة جالت بخاطرها أفقدتها توازنها قطع صدى تساؤلاتها صوت صغيرها أمجد يناديها... - أمي.. أين أبي متى يعود - لقد عاد والد أيمن وكذلك أسعد - ألم تعديننا أنه سيعود قريباً؟ - بلى يا بني سيعود وسيحضر لك حلوى تحبها. - أنا لا أريد حلوى أريد ألعاباً نارية كالتي نسمعها في القرية المجاورة. - لا بأس يا بني لك ما تريد. هز رأسه برضى وعاد لألعابه التي صنعها بيديه الصغيرتين وقد فتح ملف الذكريات الأسود ليعيد الألم ضعفين إلى قلبها الجريح. - همست... لو تعلم يا بني أن هذه الألعاب طالما أراقت دماءً بريئة ويتمت أطفالاً في عمر الزهور! نزلت دمعة من عينيها الذابلتين لتعلن براءتها من هذه الجريمة الشنعاء. قطع أجواء الصمت صوت طرق على الباب... أفاقت.. قفزت لتفتح الباب فإذا به قرة عينها محمد. - بني ما بالك تأخرت؟ - دخل بصمت وكأنه بركان يوشك أن ينفجر. - أماه قد اتخذت قراراً حازماً لن أحيد عنه بأي حال.. سكت لبرهة.. أريد السير على درب والدي لن أعيش كسير الرأس العمر كله... أدارت رأسها في صمت وأخذت تحدق في ركن المنزل المتهالك حيث يلعب أمجد ببراءة.. أطلقت زفرة من أعماقها زلزلت كيانها وأدمت جراحها وأغمضت عينيها بقوة وهزت رأسها بالرفض. - رباه .. بني محمد كيف تريدني أن أبتر جزءاً مني.. أنت مخطئ إذا كنت تعتقد أني سأدعك ترحل... لا بل سنرحل جميعاً أنا وأنت وأمجد... و... حروف تطايرت منها كالقذائف لا تعلم أين وجهتها اقترب منها محمد وقبض على يديها الجافتين ليعطيها ميثاقاً أن الله لن يضيعه طالما أنه على الحق... ابتسمت في سكينة وصمت لتعلن رضاها بذلك الميثاق... زلزل سكون ذلك الليل أصوات المدافع والقاذفات التي طالما حلم بها لتجمد الدماء في عروقه... شدت قبضة محمد لتقفز إلى صغيرها أمجد، استندت إلى ركن المنزل، ضمت أبناءها إليها لتحميهم بجسدها الناحل... في غضون ثوان معدودة أصبح البيت أنقاضاً والصمت أنيناً ورحلوا جميعاً .. ولم يبق إلا أكفُ المتعاهدين لتعلن ميثاقها للعالم أجمع للثأر لكل قطرة دم سُكبت أمام مرأى ومسمع من قوم الخذلان وشاهدُ العهد ذلك الركن الذي تطايرت الأشلاء من حوله ومازال يقف في صمت يرقب سيف الله المسلول..