كنتُ في ما مضى وتحديداً خلال حقبة التسعينات الميلادية أحد مدمني سماع الكاسيت الإسلامي (هكذا يطلقون عليه) وكان من أبرز نجوم تسويقه آنذاك أحد الدعاة الخليجيين المعروفين الذي استغل إحدى محاضراته المسجلة على الكاسيت ليروي لمستمعيه أحداث رحلة دعوية قام بها إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكان من أبرز تلك الأحداث التي استرعت انتباهه وجعلته يفكر ملياً في وضعنا نحن العرب والمسلمين - من الناحية الثقافية - مقارنة بوضع الغرب عموماً والأمريكيين خصوصاً أنه التقى مجموعة من الطلاب الأمريكيين الذين أراد ذلك الداعية أن يختبرقدراتهم الثقافية بسؤاله إياهم عن وطنه وموقعه على الخارطة الجغرافية فكان جوابهم عن سؤاله مدخلاً له لكي يؤكد لمستمعيه محدودية وهامشية ثقافة أولئك القوم، في مقابل تأكيد تفوقنا عليهم إذ لا يُعجز طلابنا سؤال هامشي كالذي طرحه عليهم. كان جواب الطلاب الأمريكان عن سؤال الداعية الخليجي بخصوص موقع وطنه جغرافياً، قولاً فصلاً في معرفة بنية التعليم الغربي وأهدافه ونتائجه مقارنة بنظيره العربي، فقد كان جوابهم عن موقع وطنه - على ذمة ذلك الداعية - متردداً بين وقوعها على عدة جوانب مما يلي المكسيك - ليسوا متأكدين بالضبط أين تقع!!!!! ولكنهم اكتفوا بالتخمين بالنظر إلى المكسيك على أنها أساس جغرافي يتحدد موقع تلك الدولة من خلالها ولكن من دون تحديد أكيد من أي جهة من المكسيك تكون !!!! على وقع هذه الإجابة أمسك ذلك الداعية بعنان فرس الظهور بمظهر المتعالي ثقافياً حيث إنه يصدرعن تعليم يعلم طلابه حتى مظاهرتنوع الطقس في بوركينافاسو في أقصى أفريقيا مقارنة بنتاج تعليم لا يعرف أين تقع تلك الدولة. إذاً فالتعليم الأمريكي - وفقاً لرواية الداعية - يخرج طلاباً لا يتوفر لهم أبسط المعلومات الجغرافية النظرية من معرفة حدود الدول ومساحاتها ونوعية الطقس فيها وما إلى ذلك، ولكن المخرجات التطبيقية لذلك التعليم وصلت بترفها التعليمي حداً تستطيع معه تحديد دولته وغيرها جغرافياً من خلال عدسة صغيرة مركبة على ظهرمركبة فضائية من بين عدة مراكب أنتجتها و تنتجها مخرجات ذلك التعليم بطريقة أصبحت أقرب إلى النمطية منها إلى الإنتاج المتخصص، أما التعليم العربي الذي كان الداعية يمد بساط الفخروالحماس من خلاله على التعليم الغربي فلم يأل جهداً لتأهيل طلابه لمعرفة تضاريس دولة (بنين داهومي) في أقصى الغرب الأفريقي إلى معرفة تنوع الفصول وأهم المدن وأبرز الصادرات لدولة (نيبال) في أقصى جنوب آسيا، ولكن لو اضطرت الظروف أحد أولئك الذين يتلقون مثل هذا التعليم للمرور بإحدى تلك الدول التي حفظ تضاريسها عن ظهر قلب لما استطاع التفاهم مع سائق التاكسي لإرشاده إلى أقرب فندق لمطار المدينة التي يسكن فيها وذلك هو الفرق المبين. تأخذني الدهشة مداها وأنا أشاهد طالب أوطالبة الثاني متوسط لدينا وقد عانى الأمرّين من حفظ تضاريس دول عديدة يجدها أمامه على خرائط الكتاب المقررعليه من معرفة نوع السطح إلى المناخ إلى نوع النشاط البشري للسكان إلى أهم المدن والموانئ، وأظل أسأل بلا إجابة مقنعة عن أهمية مثل تلك المعلومات النظرية في مسيرة حياة طالب يُرتجى منه أن يكون لبنة من لبنات بناء بلده تقنياً وعلمياً على طريق بناء قاعدة صناعية علمية متينة في المستقبل، ما الذي يرتجيه الطالب من حفظ مثل تلك المعلومات على طريق بناء شخصيته العلمية وإعداده ليكون سلعة مطلوبة مرغوبة في سوق العمل عندما يتم تخريجه لاحقاً بعد أن يقضي من سنواته العمرية ما يناهزستة عشر عاماً على مقاعد الدراسة ليكتشف لاحقاً أنه بحاجة إلى إعادة تأهيل ليكون قادراً على الممارسة المهنية لواجبات أبسط الوظائف التي لا تتطلب هذا السفرالفكري المرهق بين غابات أفريقيا وسهول آسيا، ما الذي عاب الطالب الأمريكي عندما لم يتمكن من تحديد موقع دولته على الخارطة الجغرافية الورقية؟ ألم يستطع أن يكتشف بفضل تعليمه المتطورالذي لم يشغل طالبه بمعرفة أهم المحاصيل الزراعية لدولة مثل موريتانيا خريطة أهم وأجدى للبشرية هي الخريطة الوراثية للإنسان والتي استطاع العلماء من خلالها حتى اللحظة تحديد ما يربو على تسعين في المائة من الجينوم البشري (الخريطة) المؤلف أساساً من ثلاثة مليارات حرف كيميائي ، هذا التعليم التطبيقي الذي لم يركز على حشو ذهن طلبة المتوسط بمعرفة مواطن المغول ونمط حياتهم ولا باستعراض تاريخ السلطان «قلاوون» استطاع بفضل نتاجه البشري المتطورأن يكتشف الخريطة المفصلة للكروموزوم (21) الوثيق الصلة بأمراض الزهايمر والمنغوليا والصرع، كما استطاع أن يطورتصوير الجهازالهضمي عند الإنسان بابتلاع كاميرا صغيرة على شكل كبسولة تستطيع تصوير ما تعجزأجهزة السونار الحديثة عن تصويره وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، أما نحن على خطى الداعية فدعونا نحتفل بقدرة أحد طلبة المرحلة المتوسطة لدينا على تحديد أين يقع خليج المكسيك ونوعية مناخ مدينة جوهانسبرج وكمية الأمطار المتساقطة على مدينة عنابة بالجزائر، ولكن عندما يأتي الجد وتستدعي الحاجة أحدهم لا ينفع نفساً عربية قدرتها الجغرافية وإلماماتها التاريخية وحوافظها الأدبية والبلاغية فكلها لا تسمن ولا تغني من جوع في عصر عولمة يتطلب التعامل معها مخرجات قادرة على التعامل مع الأنظمة المتطورة وتعليماً يركز على الإعداد المهني والتطبيقي بدلاً من تعليم يكتشف طلابه حين تخرجهم قصور تأهيلهم عن ممارسة حتى وظائف رجال المبيعات!!!! . أجل عندما كان الداعية ينقل لسامعيه عجز مخرجات التعليم الأمريكي عن تحديد موقع وطنه قارياً على الأقل واحتفائه بذلك فإنه لا ينقل لهم خبراً عابراً عن حادثة مرت قدرما يجسد بنية العقل العربي في احتفائه بتخلفه واحتقاره للآخر المغرد في بيداء الحضارة بعيداً تاركاً له ولثقافته ومخرجاتها أن تحتفل ببنية تخلفها على طريقتها الخاصة، فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال، صدق الله العظيم. [email protected]