أيّها الطائفيون هنا وهناك، ارحمونا من تعصباتكم وانحيازاتكم وتظالمكم، لا تجبروا أمة بأكملها أن يصبح شغلها الشاغل إطفاء حرائقكم التي تشعلون، والسيطرة على أحقادكم التي تنشرون. لم أستطع بعد استيعاب عادة البحث عما يفرّق ويشتت ويضعف، وهي عادة اكتسبها المسلمون والعرب من تاريخ طويل مليء بالمشاحنات والعدوات والصراعات، كانت في الجاهلية العربية تنشأ بين القبائل يغذيها الفخر والخيلاء بالذات ويؤججها احتقار الغير والخصوم والحط مما لديهم، وكانت تنشأ في الإسلام جرّاء صراعات مريرة بين الطوائف والفرق المتصارعة على النص الديني، يغذيها الوهم الزائف بامتلاك الحقيقة ويؤججها إقصاء الخصوم واستباحة كل ما لديهم بسبب ما يراه هذا الطرف أو ذاك خطأ وانحرافا. هكذا عبرت قوافل التاريخ، وكان مدادها الدماء المنهمرة على جنباته، والدموع المسكوبة على صفحاته، لا لشيء إلا لدعاوى لن تجد يوما دليلا مسعفا ولا حقا دامغا. حدّث التاريخ وكثيرا ما صدق أن الطائفية نهلت من هذين المنهلين ووردت هذين البئرين الآسنين، ثم انداحت في شرايين المجتمعات ومسارب التاريخ، وكان مسيرها أشبه بقطرات الماء التي تتجمع إلى بعضها حتى تصبح سيلا جارفا يقتلع كل ما بطريقه من جمال وكمال، يفرق متحدا ويشتت ملتئما ويقسم المسلمين شيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون. لم يكن خافيا عنّي حين كتبت المقال السابق أنني أسير داخل حقل ألغام كثيف، وأن الداخل في غابة الطائفية وإن حاول الموضوعية جهده إلا أن مخاطر الغابة لن تتركه وشأنه، ولن يستطيع الخروج سالما كما دخل على كل حال. لكنني أصررت على الدخول في حقل الألغام ذاك وغابة الطائفية تلك لأن الخطر المحدق كان أكبر من كل ما قد يجره الحديث من ردود فعل متحمسة تصل أحيانا حدّ التناقض. رغم محاولتي الشاقّة والمضنية أن أكون متوازنا وموضوعيا وحياديا حين كتبت الموضوع السابق، إلا أنني لم أسلم من قراءات تأخذ الموضوع بحساسية طائفية عالية، وتقيس ما كتبت بميزان هذا الطرف أو ذاك، وللتمثيل على التناقض في ردود الفعل المتحمسة والمنحازة سلفا، أذكر هنا مثالين دالّين على هذا التناقض، جاءا كتعليق على المقال السابق، يرى الأول فيهما وهو السيّد عبدالعزيز الصعب في تعليقه على المقال في جريدة «الرياض» أنني «ركزت على أهل السنة وسلبياتهم وأغفلت بقية الطوائف وخصوصاً الشيعة»، وبالمقابل يتساءل السيّد كريم الإبراهيمي في تعليقه على المقال في مكان آخر «لماذا كانت أبرز الأمثلة التي ضربها - الكاتب - عن المجازر الطائفية تدور حول ما ارتكبه الصفويون و الفاطميون بحق المسلمين السنة، بحسب زعمه، في حين أنه تجاهل تماما ما ارتكبه الأمويون والعباسيون، ثم من بعدهم العثمانيون، بحق الشيعة طوال قرون عديدة من التاريخ الإسلامي». هكذا هي الطائفية، تلغي العقل والعدل، وتشحن النفس الإنسانية بأحقاد وضغائن لا تكاد تنتهي، كما لم تخل ردود الفعل تلك من شكايات مريرة من ظلم تاريخي طائفي أو ظلم طائفي معاصر، وهذا ليس غريبا فالتاريخ مليء بالطائفية، وهي في الواقع ترقد كجمر تحت الرماد، يشتعل حينا وينطفيء حينا، ولذلك كتبت وحذّرت ولا زلت أعيد القولأن الطائفية هي الفتنة، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. إن الطائفية حين تشتعل لا تدع في أشجار الروح الإنسانية غصنا مثمرا إلا قطعته، ولا وردة متفتحة إلا أذبلتها، ليحل محلها الصديد والطغيان والأحقاد، وإلا فما الجديد في أن يذكّرنا بعض السنة بتعاون بعض الشيعة مع التتار ليمارس إسقاطا لا يخلو من الخبث، أو يذكرنا بعض السنّة، أو يستصرخنا بعض الشيعة على ثارات التاريخ ومظالم بني أمية وبني العباس السنيين للشيعة!. متى يفهم العقلاء من الجانبين أن الطائفية لن تلغي الطرف الآخر، ولن تقضي عليه، وأن الجولة إن كانت اليوم لهذه الطائفة فهي غداً للطائفة الأخرى، والأيام دولُ، وكما تدين تدان، أليس في العدل منجاة وفي التعايش فلاح!. ومشكلة أخرى في تغذية المدّ الطائفي وترسيخه، وهي تعامل وسائل الإعلام العالمية والعربية مع ما يجري في العراق - على سبيل المثال - واختيارها لمصطلحات طائفية، فهذا «مثلّث سنيّ» وتلك «قرية شيعية» وهلم جرّا، وإن كان من طبيعة وسائل الإعلام أن تبحث عن الخبر وتوصله للقارئ بكلّ أبعاده التي تمنحه قدرة على القراءة والمقارنة، إلا أن التركيز على هذا التصنيف الطائفي بين روائح البارود واضطراب الأمن يقرب عود الثقاب من البنزين ويؤذن بانعقاد غمام الطائفية المظلم. في باكستان اشتعلت النار وأكلت الكثير، وفي نيجيريا اشتعلت النار وأحرقت الكثير، وفي العراق لم تشتعل فحسب بل أن نارها مهيأة لتصبح جحيما لا تحجزه حدود العراق ولا يطفئه دجلة ولا الفرات. لئن لم تكف البعض عظات التاريخ وتجارب الأمم ليكفّ عن النفخ في نار الطائفية التي ستعود عليه حتما لتأكله فيما تأكل، فليكفه قراءة بعض التجارب الحديثة، وليتأمل فيما جرّته من خراب ودمار، وما أورثته من ضغائن وأحقاد لا تلبث أن تخرج بين فينة وأخرى، والحديث هنا عن التجربة اللبنانية مع الطائفية، وكيف أنّ الحرب الأهلية الطائفية في لبنان لم تكد تترك له أخضر نضراً ولا حلما محلقا، وكيف أن اللبنانيين احتاجوا لمساعدات ومساعدات، واحتاجوا لرجال في وزن الراحل رفيق الحريري واحتاجوا لتدخلات عربية ودولية، بالمال والقوة والسياسة وغيرها، ليستطيعوا إخماد نار الطائفية المشتعلة، ويوقفوا جنازير قطار الموت الذي أطلقته ليدهس كلّ من في طريقه من اللبنانيين، وها نحن نرى بعض غربان لبنان المهاجرة تعود لتنعق فوق الخرائب عسى أن تبعث الطائفية من رمسها بحثا عن مكانة صغيرة لم يعد في العمر متسع للتلذذ بها!. لقد مرّت في التاريخ الإسلامي والواقع المعاصر، تجارب رائعة للتعايش الطائفي بين السنة والشيعة، على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام، فكانت صداقات بين شعراء وعلماء من طوائف مختلفة سجلتها صفحات التاريخ بحروف من نور، لتخبرنا أن العدل حين ينتشر والعقل حين يحكّم والمحبة حين تظلل ذلك كلّه، سترسو بالمجتمع على شاطئ الأمان. أيّها الطائفيون هنا وهناك، ارحمونا من تعصباتكم وانحيازاتكم وتظالمكم، لا تجبروا أمة بأكملها أن يصبح شغلها الشاغل إطفاء حرائقكم التي تشعلون، والسيطرة على أحقادكم التي تنشرون. إن التحدي العالمي لا يمنح الأمم المتصدعة مكانا، ولا يجد لها مكانا حتى في أسفل درجات سلمه الصاعد إلى المستقبل، فهل سنبقى كل يوم نطفئ حقدا هنا، وضغينة هناك، ونلاحق مظلمة تاريخية نازفة، ونطارد أخرى معاصرة راعفة!. ليس للطائفية حل مثل العقل والعدل، واعتراف الطوائف بحق بعضها في تفسير النص الديني، وبناء منظومة تأويلية له، وإنتاج آليات علمية واجتماعية وسياسية لاستيعاب هذا الاختلاف الطائفي في مسارب سلمية تكفل للجميع العيش بكرامة وسلام وأمن وطمأنينة.