لم تعد الأساليب الترهيبية التي كانت تستخدم في الخطب وأشرطة الكاسيت مؤثرة أومنتشرة كما كانت في السابق. في فترة ماضية كانت المؤثرات الصوتية التي تعتمد على القصص المخيفة والبكاء المرير والصيحات المفاجئة التي تحاكي صيحات المعذبين ذات تأثير قوي على نفس ومخيلة المستمع. لكن هذه الموضة تراجعت لمزيج من الأسباب . أولاً بعد تراخي قبضة التشدد بات التوجه العام في المجتمع ينزع للاعتدال ولا يستسيغ مثل هذه الأساليب التي تنتمي لمرحلة سابقة. ثانيا ان المروجين أنفسهم لهذه الأساليب باتوا يدركون أنها باتت مستهلكة وغير فاعلة خصوصاً وأن التقنيات الحديثة جعلت كل هذه المؤثرات الصوتية مبتذلة وعديمة الفائدة. أضف لذلك –، وهذا السبب الثالث-، إلى تزايد الحس النقدي لدى الناس . لو عدنا إلى الاستماع إلى تلك المسرحيات الصوتية من الصرخات ونوبات البكاء فإنها ستكون بمعايير اليوم رديئة الإنتاج وخالية من اللمسات الإبداعية وكل تركيزها ينصب بوضوح على الضرب بقوة على أوتار الخوف لدى المتلقي. لكن الحسنة الوحيدة لهذه الأساليب أنها اعتمدت فقط على الأصوات ولم تلجأ للرسومات أو الأفلام بسبب تحريم تصوير هذه الشخصيات . هذا التحريم في هذه الحالة أنقذنا- ولله الحمد- من رؤية شخصيات سمعنا عنها كثيرا مثل ملك الموت والشجاع الأقرع والمسيح الدجال وغيرها من الأسماء ذات التأثير المرعب والمؤثر على مخيلة وعواطف الناس.شخصيات ترعب السامعين فكيف بالناظرين ؟ تخيلوا لو أن ذلك كان مسموحاً به فإن كل شغل التسجيلات بما فيها من مؤثرات صوتية ونشيج مرير سيكون بمثابة عمل هواة مبتدئين. مقطع تسجيلي واحد أو صورة واحدة بشعة لها تأثير أكبر بكثير من عشرات الخطب والكاسيتات خصوصاً عند الأطفال وهذا ما جربته بنفسي. لسوء حظي فقد مر عليّ في طفولتي معلم من هواة التخويف والأسوأ من ذلك أنه كان منفتحاً على مسألة التخويف بالرسومات ولا يرى في ذلك مشكلة إذا كانت ستؤدي الغرض المطلوب منها . لذا قرر في يوم ما أن يجلب صورة مرسومة للمسيح الدجال. وجه دميم وشعر منكوش وكلمة " كافر" محفورة على جبهته . هذا الوجه الكالح انطبع بقوة في مخيلة طلاب الفصل العارفين قبل ذلك بسيرة هذا الشيطان وتفاصيل ما سيقوم به في آخر الزمان. هذا كثير جدا على طفل في صف الثالث أوالرابع الابتدائي. لذا أصبحت أرى المسيح الدجال في كل مكان وكل وقت. عندما أعود من المدرسة أعتقد أنه يمشي خلفي أو يترصد لي في الزوايا المتوارية . وإذا لم أشاهده فإن مسألة قدومه بالنسبة لي باتت وشيكة ولا أعرف كيف أتدبر أمري معه خصوصا وأنه قادر على إنزال المطر وإحياء الموتى. كان السؤال الذي تدور عليه كل حياتي حينها هو" شخص بهذه القدرات الخارقة ،كيف لي أن لا أصدقه وأفتن فيه ؟!" . في الليل تتضاعف المأساة. في الغرفة المظلمة أرى خيالاته البشعة تتراقص وتنتقل من الجدار إلى السقف إلى الزوايا. لأسابيع أصبحت عاجزا عن النوم إلا ساعات قليلة. اختفت صورته تدريجيا مع الوقت ولكن عقلي وروحي تعرضتا لكرب وألم شديدين. ولكن مع هذا الخوف القاتل خرجت بتجربة روحية رائعة أدركها الآن فقط بعد أن تجاوزت الثلاثين . أثناء هذا الخوف من خروج المسيح الدجال اضطررت للعودة والنوم بجانب أمي التي لم تعرف حينها سبب هذه العودة الخائفة المفاجئة خصوصا أني غادرتها مبكرا كما يفعل الأولاد ليثبتوا أنهم رجال لم يعودوا بحاجة إلى حماية الأم. لكن الدجال أعاد الطفل إليها مهزوماً . لذا، وكحرب مضادة على خيالات الوجه الدميم، كنت أمسك بيدها حتى يتسلل الأمان إلى قلبي ولكن ذلك أحيانا لا يكفي فتطلب مني أن أقرأ آية الكرسي المليئة بمعاني الحب والقداسة والأمان . بعد تردديها مرات عديدة بصوت مرتجف تبدأ الصور البشعة بالتناقص واحدة تلو الأخرى حتى تختفي كلها.أشعر أن لمسة ناعمة تطفئ الزر الذي ضغطه معلمي قبل أسابيع وجعل خيالي يعيد إنتاج صور المسيح الدجال بصورة لا تتوقف. أخيرا ، يتوقف عقلي عن التفكير وأشعر بدفقات ناعمة من مشاعر الأطفال بالسعادة والارتياح تتسرب وبعدها تنعس عيناي.ماذا حدث ؟ ! هذا ما أفهمه الآن أكثر.في لحظات يتصل أمان وحب أمي لي في الأرض مع أمان وحب الله لي في الأرض والسماء وحينها لا ترتاح فقط نفسي بل تنفتح لها آفاق الكون وأستعيد الحس الطبيعي للحياة. عندها فقط أعود لطبيعتي . تنشرح نفسي وأشعر بالسلام وأخلد إلى نوم لذيذ وهادئ. ما خرجت منه بهذه القصة السريعة أن الحب والثقة والأمان في الأرض وبين الناس المتصلة مع الإيمان الصافي بالله هو كل ما نحتاجه لنشعر بالراحة والسعادة ونظهر شخصياتنا على حقيقتها ، أما الخوف والتطرف والترهيب والعنف وتصوير الشياطين فإنه يقتل شخصياتنا الحقيقية بعد أن يزرعها بالآلام والأوجاع والآثام ويجعلها أسوأ لأنه يدمرها ويملؤها بالخيالات السوداوية- بدل أن يكون الخيال مصدراً للخيالات الجميلة والخلاقة- ويقمعها ويجعلها كارهة وغاضبة . لا يخص فقط ذلك الأطفال وإن كان ذلك يبدو أكثر خطورة معهم لأن نفسية وخيال الطفل تتشكل في السنوات الأولى ومن ثم تعيش فينا . الحب والحرية والعيش بسعادة وسط من الجمال والثقة والاحترام هو ما يحسن من شخصية الإنسان ويجعلها تقدم أجمل مافيها للحياة ولخالقها.