ثقافة اليوم: صدرت عن دار طوى للثقافة والنشر والإعلام رواية البيروفي ماريو فارغاس يوسا والصادرة مؤخراً باللغة الإسبانية ، وترجمها إلى العربية صالح علماني ، وتصدر تزامناً مع معرض الرياض الدولي للكتاب ، وهي الرواية التي صدرت بلغتها الأصلية تزامناً مع معرض مدريد الدولي الذي أقيم مؤخراً في مايو 2011 . وتعتبر رواية "حلم السلتي" هي الرواية الأولى ليوسا بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب التي حصل عليها في العام 2010. والرياض تنشر هنا الفصل الأول من الرواية الصادرة حديثاً: الكونغو عندما فتحوا باب الزنزانة، دخلت أيضاً، مع دفقة الضوء وهبة الريح، ضجة الشارع التي تُخمدها الجدران الحجرية فاستيقظ روجر مذعوراً. وبينما هو لا يزال يرمش، مشوشاً، مصارعاً من أجل استعادة السكينة، لمح شبح الشريف مستنداً إلى فراغ الباب. كان وجهه المترهل، بشاربه الأشقر وعينيه النمامتين، يتأمله بجفاء لم يحاول مداراته من قبل قطّ. هذا شخص سيتألم إذا ما استجابت الحكومة الإنكليزية لطلبه بالرحمة. زيارة دمدم الشريف دون أن يرفع بصره عنه. نهض واقفاً وهو يفرك ذراعيه. كم من الوقت نام؟ أحد عذابات سجن بينتونفيل يتمثل في عدم معرفة الوقت. ففي سجن بريكستون وفي برج لندن كان يَسمعُ قرع النواقيس التي تشير إلى كل نصف ساعة وإلى تمام الساعات؛ أما هنا، فالجدران السميكة لا تسمح بأن تنفذ إلى داخل السجن ضجة أجراس كنيسة كاليدونيان رود ولا صخب سوق إيسلينغتون. والحراس القائمون على الباب ينفذون بصرامة الأمر بعدم التوجه إليه بالكلام. وضع الشريف القيد في معصميه وأومأ إليه بأن يخرج أمامه. أيحمل إليه محاميه خبراً طيباً؟ أتكون الحكومة قد اجتمعت لتتخذ قرارا؟ ربما يكون اتخاذهم القرار بتخفيف الحكم هو السبب في نظرات الشريف التي يبدو جفاؤها أشد زخماً من أي وقت آخر. كان يمشي في الممر الطويل ذي الآجر الأحمر الذي سوّدته القذارة، بين أبواب الزنازين المعدنية وبعض الجدران حائلة اللون حيث توجد كل عشرين أو خمس وعشرين خطوة نافذة عالية مزودة بقضبان حديدية يمكن من خلالها رؤية قطعة صغيرة من السماء الرمادية. لماذا يشعر بكل هذا البرد الشديد؟ الشهر تموز، قلب الصيف، ولا مسوغ لهذا الجليد الذي يجعل جلده يقشعر. لدى دخوله إلى قاعة الزيارات الضيقة، أحس بالغمِّ. فمن هو بانتظاره هناك ليس محاميه، الأستاذ جورج غافن دافي، وإنما أحد معاونيه، شاب أشقر ممتقع الوجه، بارز الوجنتين، يلبس كمتأنق، وكان قد رآه خلال أيام المحاكمة الأربعة يذهب ويجيء بأوراقٍ لمحاميي الدفاع. لماذا أرسل الأستاذ غافن دوفي أحد مساعديه بدل أن يحضر بنفسه؟ صوّب إليه الشاب نظرة باردة. وكان في عينيه غيظ وقرف. ماذا أصاب هذا الأحمق؟ «إنه ينظر إليّ كما لو أنني وحش ضار»، فكر روجر. هل من جديد؟ نفى الشاب بحركة من رأسه. واستنشق هواءً قبل أن يتكلم: بشأن طلب العفو، لا شيء بعد دمدم بجفاء، وبتكشيرة تزيد من امتقاع وجهه يجب الانتظار إلى أن يجتمع مجلس الوزراء. كان روجر منزعجاً من حضور الشريف والحارس الآخر في القاعة الصغيرة. ومع أنهما ظلا صامتين ودون حركة، إلا أنه يعرف أنهما يصغيان بانتباه لما يتبادله من حديث. وكانت هذه الفكرة تُثقل على صدره وتزيد من صعوبة تنفسه. أخبار الخارج لا تصل إلى سجن بينتونفيل. ما الذي جرى؟ وماذا لو أن قيادة البحرية الألمانية قد قررت أخيراً شن الهجوم على بريطانيا العظمى من الشواطئ الأيرلندية؟ وماذا لو أن الغزو المنتظر قد وقع وبدأت مدافع القيصر تنتقم في هذه اللحظات للوطنيين الأيرلنديين الذين أعدمهم الإنكليز رمياً بالرصاص في انتفاضة أسبوع الفصح؟ إذا كانت الحرب قد اتخذت هذا المسار، فإن خططه تتحقق على الرغم من كل شيء. لقد صار الوضع صعباً الآن، وربما صار النجاح مستحيلاً كرر معاون المحامي. كان شاحباً، يكبح غيظه بينما روجر يلمح جمجمته تحت بشرة وجهه البيضاء. راوده هاجس بأن الشريف، وراء ظهره، يبتسم. عمَّ تتكلم حضرتك؟ لقد كان السيد غافن دافي متفائلاً بشأن طلب العفو. ما الذي حدث كي يبدّل رأيه. يومياتك تهجى الشاب بتكشيرة استياء أخرى. كان قد خفض صوته ووجد روجر مشقة في سماعه لقد اكتشفتها سكوتلنديارد في بيتك بشارع إبوري. احتفظ بصمت طويل منتظراً أن يقول روجر شيئا. ولأن هذا الأخير أصيب بالبكم، فقد أطلق لسخطه العنان وعوج فمه: كيف أمكن لك أن تكون على هذا القدر من الحماقة، يا رجل الله كان يتكلم ببطء يجعل حنقه أشد تأثيراً . كيف أمكن لك أن تصوغ بالحبر والورق مثل تلك الأمور، يا رجل الله. وإذا كنتَ قد فعلت ذلك، كيف لم تتخذ احتياطاً أولياً بإتلاف تلك المذكرات قبل أن تبدأ التآمر ضد الإمبراطورية البريطانية. «أن يدعوني هذا الصبي "يا رجل" ينطوي على إهانة » ، فكر روجر. إنه فتى سيئ التربية، فهو في سن تعادل ضعف عدد سنوات عمر ذلك الشاب المتكلف. مقاطع من تلك المذكرات صارت متداولة الآن في كل مكان أضاف المساعد، وقد صار أكثر هدوءاً، وإن كان لا يزال مستاءً، ولم يعد ينظر إليه الآن في قيادة البحرية، الناطق باسم الوزارة، الكابتن البحري ريجينالد هول شخصياً، سلّم نسخاً لعشرات الصحف. إنها في كل أنحاء لندن. في البرلمان، وفي مجلس اللوردات، وفي أندية الليبراليين والمحافظين، في هيئات التحرير، في الكنائس. لا حديث في أي أمر آخر في المدينة. لم يقل روجر شيئاً. لم يتحرك. كان يشعر مرة أخرى بذلك الإحساس الذي هيمن عليه في أحيان كثيرة خلال الشهور الأخيرة، منذ ذلك الصباح الرمادي الماطر من شهر نيسان 1916، حين جرى اعتقاله وهو يرتجف من البرد، في مكينز فوت، جنوبي أيرلندا: ليس هو المعنيّ، إنهم يتكلمون عن شخص آخر، وشخص آخر هو من تحدث له هذه الأمور. أعرفُ أن حياتك الخاصة لا تعنيني، ولا تعني السيد غافن دافي ولا أي شخص آخر أضاف المعاون الشاب باذلاً جهده في تخفيف الغضب الذي يخالط صوته . إنها مسألة مهنية بصرامة. السيد غافن دافي أراد أن يُطلعك على الوضع. وأن يحذرك. يمكن لطلب الرحمة أن يكون في خطر. فصباح اليوم، ظهرت في بعض الصحف احتجاجات، واتهامات بخيانة الأمة، وإشاعات حول مضمون يومياتك. ويمكن للرأي العام المؤيد للالتماس أن يتأثر. إنه مجرد افتراض بالطبع. السيد غافن دافي سيُبقيك على اطلاع. هل ترغب في إيصال رسالة إليه؟ نفى السجين بحركة تكاد تكون غير ملحوظة من رأسه. واستدار على الفور مواجهاً باب صالة الزيارات. أومأ الشريف بوجهه ممتلئ الخدين إلى الحارس. فسحب هذا الأخير المزلاجَ الثقيل وانفتح الباب. بدا له طريق العودة إلى الزنزانة بلا نهاية. خلال المسير في الممر الطويل ذي جدران الآجر المتحجرة الحمراء التي يخالطها السواد، راوده إحساس بأنه قد يتعثر في أية لحظة ويسقط على وجهه فوق تلك الأحجار الرطبة ولا يعود للنهوض. عند وصوله إلى باب الزنزانة الحديدي، تذكر: يوم جاؤوا به إلى سجن بينتونفيل قال له الشريف إن جميع السجناء الذين شغلوا هذه الزنزانة، دون أي استثناء، قد انتهوا إلى المشنقة. هل يمكنني الاستحمام اليوم؟ سأل قبل أن يدخل. نفى السجان البدين برأسه وهو ينظر إلى عينيه بالاشمئزاز نفسه الذي لمحه روجر في عيني معاون المحامي. لا يمكنك الاستحمام حتى يوم تنفيذ حكم الإعدام قال الشريف متلذذاً بالكلمات إذا كانت هذه هي رغبتك الأخيرة في ذلك اليوم. هناك آخرون، بدل أن يطلبوا الاستحمام، يطلبون وجبة دسمة. وهذه صفقة سيئة لمستر إيليس، لأنهم عندئذ، حين يشعرون بالحبل، يتبرزون. ويخلِّفون المكان ممتلئاً بالقذارة. مستر إيليس هو الجلاد، إذا كنتَ لا تعرف ذلك. حين سمع إقفال الباب وراء ظهره، ذهب ليستلقي على السرير الضيق. أغمض عينيه. كان يمكن للأمر أن يكون طيباً لو أنه أحس بالماء البارد المتدفق من تلك الماسورة يوتر بشرته ويصبغها بزرقة البرودة. السجناء في سجن بينتونفيل، باستثناء المحكومين بالإعدام، يمكنهم الاستحمام بالصابون مرة كل الأسبوع تحت دفق ذلك الماء البارد. وظروف الزنازين هناك مقبولة. وبالمقابل، تذكر بقشعريرةٍ قذارة سجن بريكستون، حيث امتلأ بالقمل والبراغيث التي تكاثرت في فراش سريره الضيق وغطت ظهره وساقيه وذراعيه بلسعاتها. حاول التفكير في ذلك، ولكن كان يعود إلى ذاكرته، مرة بعد أخرى، الوجه المستاء والصوت المقيت للمعاون الأشقر المزين كغندور الذي أرسله إليه الأستاذ غافن دافي بدل أن يأتي هو بنفسه لاطلاعه على الأخبار السيئ