ترجمت الرياض في قفزاتها الديموغرافية والاقتصادية الحالة الاجتماعية لأهالي المدينة، وهم يغدون "خماصاً" ويروحون "بطاناً"؛ غير أن ثلة من عابري الطرق من "الطرقية والكدادة" كانوا يتوقفون أمام مقاه ٍومحطات تناثرت حول مدينة الرياض بشاحنتهم "اللوري" و"الأبلكاش" يسبقهم إليها أصحاب "التكاسي" وبعض "الزكرت"؛ لتبدأ الطلبات تنهال على ذلك الصبي الذي لا يكاد يحيط بطلبات زبائنه تارة "أربعة أسود"، وتارة "شاي عدني"، وتارة أخرى نص أو حتى ربع كبسة مع الثلاجة "جيك ماء". كانت مقاهي الثمانينيات ظاهرة اجتماعية لم تحكها لنا طرائف "الجاحظ" ولا رحلات "الأصمعي"، بل قد فاتت -ويا للأسف- عن قلم "بديع الزمان" و"ابن جبير"، ولو قدر الله لك أن تكون من أبناء ذاك الزمان وأعطيت فرصة للتجول في ردهات إحداها لسمعت أذنك في "مقهى العويد" -تقاطع طريق خريص مع خالد بن الوليد "انكاس"- مساجلات ومناكفات عن شؤون وشجون الطريق، وفي زاوية أخرى الحديث عن فيافي الدهناء وهواتف الجن والغول وحتى (العفريت الأزرق)، كما ستصغي إلى قصص "الكدادة" ومغامرات الطريق، ولا بأس من أن تشنف أذنيك ببعض القصائد ومليح الاشعار أبان الرحلات مع "أرامكو" يلقيها رجل من "الطرقية" لم يعتنِ بهندامه بقدر اعتنائه بحنجرته، مردداً وهو في طريقه إلى رأس تنورة أبيات "الحويفي" الشهيرة: يا عبيد من ينشدك عنا سكان في رأس تنوره من فوق سفنٍ يشلنا عمال والنفس مخطوره شط البحر قبلة منا بديار من يلعب الكوره قل للبني لا تباطنا يمضي الحول ونزوره قله ترانا تمدنا كلن يولع بدافوره قلبي على شوفكم حنا وحالي من البعد منسوره و"قهوة العويد" من أشهر المقاهي في الرياض على وجه الإطلاق، يؤمها الرياضيون، والصحافيون، والكتّاب، ورجال الأعمال، حيث يجدون فيها متنفساً لهم من حر المدينة، وليلها الذي يبعث في النفس السأم، والتعب، فيجتمعون كل في حلقة يتسامرون ويتبادلون الأحاديث والنكت وما استجد في مهنهم، أو أعمالهم، فاللاعبون يتحدثون عن أخطاء المباريات، ومفاتيح الفوز، وتكهنات متصدر الدوري، وانتقالات اللاعبين التي يكون ثمنها مغرياً، حيث تتم بشرط إعطاء اللاعب "بوت" جديداً من صناعة "الفلو" الذي كان يقوم بتفصيل "الجزم" للاعبين، أو دراجة نارية للاعب الاستثنائي، أو بين الصحافيين ومناكفاتهم مع بعضهم، ونوادرهم، وحكاياتهم في العمل. غابت "قهوة العويد" عن المشهد، وغاب معها وجوه كانت تجد فيها روحها، وفرحها، وتعليقات حضورها، وتجمعات جيلها؛ حين يرون الحدث كما هو، ويسمعون الموسيقى وكأن "الحفلة" على الهواء، ويسترقون سمع القلوب في صفاء قيمها وحبها ووفاء رجالها، أما اليوم فقد توزع الجيل الحالي على آلاف المقاهي، و"الكوفي شوب"، يتبادلون الحديث، ويضحكون، ويستمتعون بوقتهم..ولكن الطعم يبدو مختلفاً..ليس "شاهي النكهات" مقارنة ب"الشاي العدني" في "قهوة العويد"، وإنما فارق الزمن حين ينحاز إلى ماضيه.