لم يسبق أن استطعمت " معنى أن أكبر " ، أن تجد المرأة نفسها بعد طريق طويل بجسد تغير كثيرا عن مرحلتها الحياتية الماضية ، لم يسبق لي أن خبرت ماذا يعني أن تغلق المرأة جميع صناديق أحلامها الوردية وتضعها في خزانة الأربعين ، لأنها ببساطة شديدة ... كبرت وأصبح هنا خط رقيق أحمر فاصل بين مراحل شبابية تضج بالحنين والحلم ومتعة الخطأ ومتعة الصواب ، ومعنى أن تجرب كثيرا وتتعثر وتقع ثم تنهض لتنفض عنك غبار التجربة فتقف من جديد لأنك تعلم بأن هناك الكثير يجب أن تفعله ... كيف تتناسى المرأة بأنها كبرت .. بذلك القدر من القلب الذي مازال يمزج الحب للحياة بداخل روحها ، ويبقى يصر على أن يكون شامخا دائما ... لم يسبق لي أن فكرت .. كيف سأكون حينما أمضي إلى سن الأربعين ... وأي الوجوه من النساء سأكون ، أي حزن أكثر سيرافقني في تلك الفترة ، وأي وجع مرير سيكمل معي بقية حياتي جاء من مخلفات مراحل عمري السابقة ، أي حب سيبقى ... وأي حب سيغادر ..! أي الصداقات التي ستنجو من النسيان في عمري لتكمل معي حتى أموت ؟ وأي الأبناء سألد وسيكبرون مرافقة لكبري ، وحينما يولدون هل سيرثون مني " ترنحي " الدائم تجاه التأمل والحياة والعته بأحلام لاتأتي أبدا أو ربما تأتي متأخرة ! وكيف عندها سيكون طعم وحدتي ، وكيف من الممكن أن أتغلب على هشاشتي أو ربما أستمتع بها ، وكيف سأموت !! كيف سيكون شكل الكفن ! كيف سيكون شكل الوداع ؟ كيف سيكون شكل الحياة دوني ؟ وماذا سيبقى ليذكرني - أنا الغائبة عندها - بوجودي بعد أن مضيت .... بذلك القدر من التعري أمام الذات .. تجد نفسها الكاتبة الشفافة " ليلى الجهني " في كتابها " 40 في معنى أن أكبر " في رحلة تأمل بعد وصول عمرها الذي لاتذكر منه سوى تفاصيل تعنيها لوحدها في الحياة إلى سن الأربعين ، حيث تسرد " الجهني " بلغة آسرة وناهضة بعض القصاصات من روحها التي تتعهد لها في هذا الكتاب بأن تفهمها أكثر ، فقط حينما تقرر بعد تلك التجربة الحياتية الوفيرة أن تتعرى أمام الذات لتنطلق لديها الأسئلة ، والأفكار ، والمواقف المضادة في حياتها للحياة ذاتها بالشكل الاعتيادي الذي من الممكن أن تكون عليه حياة أي امرأة عادية ... يبدو للوهلة الأولى من غلاف الكتاب بأنك تمسك بقطعة موج من البحر لفرط زرقته ، ولاأعرف لماذا شعرت هنا بأن " ليلى الجهني " نفسها موج يشبه ذلك الغلاف ، فلم يكن هنا مصادفة أن يسبح الغلاف في زرقتها التي تفوح رائحتها من فحوى أوراق سطورها المختبئة خلف الغلاف ، وبين خطين أحمرين رقيقين بقيت امرأة تربت على ظهرها ورأسها بيدها الطويلة وكأنها هنا - تقف لتسأل نفسها ... هل حقا كبرت ؟؟ ويبدو من شكل جسد المرأة المرسوم على الغلاف فارق كبير بين جسد المرأة الذي بدا بحجم أكبر من حجم الرأس وكأن في ذلك الجسد المتشابك الساقين تشابكا لمرحلة " الأربعين " سنة التي بلغتها الكاتبة ، في حين بقي الرأس هنا دلالة على وجود طفلة صغيرة بالداخل مازالت موجودة لكي تمارس ذات الحلم وذات الطيش وذات الركض خلف الحياة أو ربما برفقة الحياة . الغلاف تنسج " الجهني " في كتابها خيوطا جميلة عن أهم الأشياء التي عاشتها قبل سن الأربعين فمن يقرأ كتابها يعتقد بأنه أمام امرأة كرهت بإصرار كبير أن تصل إلى مرحلة الأربعين من عمرها ، ولكن الحقيقة التي تختبئ خلف الكتاب تكمن في وجود امرأة تعبت جدا لفرط مافهمت ذاتها وأصبحت مكشوفة جدا على مرآتها الداخلية المتجرة من القشور التي من الصعب أن يتخطاها الإنسان العادي في سن الأربعين ... فهي كما تقول ( إنني أكبر ، بوعي ممض ، يجعل من الحياة أحيانا جحيما صغرى ، لكني لاأملك أن أتخلص منه ، ولاأريد أن أحيا دونه ، وقد مر وقت لم أدر فيه - لطول ماتعذبت - ماإذا كان وعيي نعمة أم ابتلاء ). وتنسحب الكاتبة في تأمل عميق لما حصدته بعد سنواتها الطويلة في الحياة من غنائم وخسائر فتجد بأن ثمن الوقت في أن تعرف لا في حساب عدد السنوات التي تعيشها المرأة ، في كبر حجم الألم بداخلها كلما تقدم بها العمر ، وفي الميل إلى الصمت أكثر ، وفي الكبر الذي لايأتي لها بفهم أكبر للحياة والعالم من حولها ، وفي ارتباطها أكثر بالقراءة والكتب ، وفي تضخم حساسية الخصوصية التي أصبحت تعشق بأن تكون معها دائما فلا يفسد عليها أحد عالمها بقولها ( إنني أكبر ، وأزداد مرضا بخصوصيتي ) ، ثم في اضطراب نومها لفرط تفكيرها في مصيرها ومصير من يعني لها في الحياة ، . أنها تكتب عن جميع تلك الخطوط العريضة في حياتها مرفق كل صفحة من كتابها بعبارة " أنني أكبر " وكأنها هنا تجرب أن تقر بداخلها بحقيقة أنها تدخل في سن الأربعين وذلك يعني بأنها مسؤولة أكثر من أي وقت آخر عن كل مايحتبس بداخلها ويتقاطع مع حياة الآخرين .. بعيدا عن عدد ماحصلت عليه في الحياة وماخسرته وهو المعنى الجميل الذي عبرت عنه بقولها : ( أن قيمة مانناله وما نحرم منه ليست في الأشياء نفسها ، بل في الطريقة التي نتعامل بها مع تلك الأشياء ، نعمة كانت أم ابتلاء . وإذا كنا نعي دون جدل أن الابتلاء ثقيل ، فإن قلة يعون أن النعمة - كالابتلاء - ثقيلة ، وأن شكرها أثقل من الصبر على ضدها ! ) وتكشف الكاتبة في كتابها الشيق عن أغرب حالتين شعرت بهما في مرحلتها العمرية تلك بعد بلوغها " سن الأربعين " فالأولى مرتبطة بفكرة الموت ، والثانية بالإنجاب .. فالتأمل الشديد في معنى أن تكبر يدفعها لأن تفصح عن فكرتها المجنونة الأولى : والمتعلقة برغبتها الدائمة في أن تموت في سن الثلاثين قبل أن تصل لسن الأربعين حتى تموت وهي امرأة تامة كما عبرت بذلك ، وأما الثانية فهي الفكرة المضادة لحلم أي امرأة تكبر وتبدأ تفكر بوجود أبناء يحملون عنها قديم العمر ، وشظايا الذاكرة المفقودة ، لكن الكاتبة هنا تجد بأنها سعيدة إذ لم تنجب أبناً تتحمل مسؤولية عذابه في هذه الحياة الموجعة في كل تفاصيلها فهي لاتحتاج لمن يخلد ذكرها بعد موتها لأنها تجد بأن ما أنجبته عصي على الموت أن يغيبه ، فالحياة لديها ورطة كبيرة لاينبغي لها أن توقع مخلوقا فيها إلا أن رغب . إلا أن في حديثها عن الرجل الذي قابلته في نص الطريق وتزوجت به ، شيء جميل وهامس يدعو إلى تأكيدها على حقيقة جميلة بقيت دائما تشعر بها وربما لاتراها ، فتصف لحظة زواجها بزوجها باللحظة المناسبة إذ تمنحها الحياة شيئاً من الإنصاف بوجود رجل يحسن كثيرا قراءتها حتى في أشد الأوقات تقلبا : ( إنني أكبر ، وأنت معي ، أقول لك بنزق " أشعر بالفراغ " فتقول بهدوء " أكتبي " فأحس أن ليس هناك ماهو أكثر أمانا من أن تعرفني إلى هذا الحد ، وأن تكون معي ) إن كتاب : 40 في معنى أن أكبر " في حقيقته لايكشف طبيعة ماتشعر به المرأة حينما تقارب أن تزج في سن الأربعين وهو الحالة الوسطى المقاربة للكبر أكثر من الشباب ، ولكنه تعرٍ حقيقي لامرأة واحدة ، ومختلفة ، ولاتشبه كل النساء ، إنه مرآة لسقف روح ، لوجه امرأة تعرف جيدا كم مرة خسرت ، وكم مرة بكت ، وكم مرة تألمت ، وكيف هو شكل قراراتها وتلك روح لاتخلق في كل النساء ممن يفتحن باب الأربعين .. وعلى الرغم من الحس الاكتئابي الذي يحمله هذا الكتاب ، إلا أنه يكشف عن الركون الكبير إلى الذات المتقوقعة بحياتها الماضية ماخسرت وما كسبت ! لكنه يفتقر كثيرا للرغبة في القفز فوق أسوار الحياة العالي والنظرة إلى القادم بطريقة الأمل وفكرة " الأجمل " وربما ذلك ما لا يشابه وجه الكاتبة وروحها ( إني اكتشفت - متأخرة مثلما يحدث دائما - أن السعادة هي ما كانت تنقصني ، وإني أستحقها ، أستحقها ، أستحقها ، حتى لو نغصها الخوف والوعي ). ( هل شبعت من حياتي ؟ هل فهمت تعقيدها وحساسيتي إزاء هذا التعقيد ؟ إنني أكبر ، لكن هل نضجت بالقدر الذي يستحقه عمري ؟ لاأدري ، كل ما أعرفه الآن أنها حياتي ، وذاك ماحدث ) ويبقى السؤال الكبير الذي يعلقه هذا الكتاب في ذهن القارئ : كيف سيكون شكل " الأربعين " هل هو بقدر مخاوف الماضي أم بقدر دهشة الغيب ؟