أول مرة سمعت باسم الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى، الذي كرّمته دمشق قبل أيام، وأنا في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري عندما قرأتُ له، في مجلة «الأديب» أو «الآداب» اللبنانية، قصيدة ما زلت أحفظ بعض كلماتها إلى اليوم: أنا لو حقّق الزمانُ طلابي عشتُ وقفاً على العيون السودِ وأذبتُ الحياة في عنقودِ وعندما تعرّفت إلى سليمان العيسى بعد ذلك ونشأت بيني وبينه مودة عميقة، تأكد لي أن الزمان لم يحقق له طلابه، أي أهدافه أو غاياته. فقد حلم في صباه، وربما قبل أن يكتب قصيدته هذه بسنوات، حلماً عظيماً هو حلم الوحدة العربية. وقد غنّى هذا الحلم في شعره ونثره، وفي ما كتبه من أدب للأطفال. ولكن الحلم الذي توهج لديه ذات يوم، سرعان ما خبا وهجه، أو أفل نجمه. وهو ما شكّل مأساة هذا الشاعر الذي قدم أصلاً إلى دمشف من لواء الاسكندرون بعد أن وضع الأتراك يدهم عليه وانتزعوه من سوريا عنوة واغتصاباً. ولكنه لم ييأس وقد تهاوى «اللواء» أمام ناظريه قبل أن ينزح إلى الشام ثم إلى بغداد ليدرس في دار المعلمين فيها جنباً إلى جنب مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وهذا الرعيل. ففي دمشق شهد ولادة «حزب البعث العربي» الذي أسّسه أستاذه زكي الارسوزي والذي كان فيما بعد حصيلة اندماج بينه وبين «جماعة الاحياء العربي» وكان منهم ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار. وكان في نواة هاتين المجموعتين: «البعث» و«الاحياء»، ما عُرف بجماعة «لواء الاسكندرون» الذين قدموا مع الارسوزي من «اللواء» إلى دمشق وسائر المدن السورية الأخرى، وفي طليعتهم سليمان العيسى وصدقي اسماعيل. ولأن سليمان العيسى نازح من دياره الأصلية، أو «مهجّر» كما نقول بلغتنا المعاصرة فقد أمضى حياته ينّوع على ايقاع شعري واحد تقريباً هو الايقاع القومي، أو الايقاع العروبي، مع أن له أشعاراً وجدانية وغزلية رفيعة المقام. ولكن الشعر القوي عنده جبّ أي شعر آخر، لدرجة القول إن سليمان العيسى هو شاعر العروبة بالدرجة الأولى مثله في ذلك مثل الشاعر القروي رشيد سليم الخوري. والغريب أن الشاعر القروي، وفي معرض حديثه في مقدمة ديوانه عن السبب الذي جعله يغلّب في شعره الحسّ القومي على الحسّ العاطفي، يدلي بنفس ما يُدلي به سليمان العيسى، وهو أنه عندما رأى أمته العربية مهيضة الجناح ومستلبة الإرادة، فقد عقله وقرر أن يوقف شعره، بل حياته، على الشعر القومي. ولكنه لو رأى أمته قوية، عزيزة الجانب بين الأمم، لأوقف حياته على هند وليلى وسائر إخواتها. يلخّص سليمان العيسى تجربته الشعرية بالقول: «الذي أريد أن أقوله للناس، للأخوة، للريح، لكل من أعرف ومن لا أعرف، إنني لستُ شاعراً. ولا حرصتُ أن أكون شاعراً. تلك هي الحقيقة التي تكشف أعماق أعماقي، بالرغم من الدواوين العديدة التي صدرت لي والتي ستصدر. ليس الشعر همي، ولا قضيتي. أنا أحمل أمنية ضخمة، وخيال شجرة توت اقتُلعت من تحتها وأنا طفل. ومن أجل هذه الأمنية الضخمة سأكتب النثر. سأكتب الشعر. سأقاتل بالكلمة الجميلة ما دمتُ على قيد الحياة». ويؤكد سليمان العيسى هذه الأمنية، أو هذا الحلم، في كل ما كتب، وصولاً إلى يومنا هذا: «الحلم الضخم الذي عشتُه، هو ان تكون في دولة عربية كبرى، قادرة على ان تحمي لي اطفالي، فلا يقتلهم من يشاء، ساعة يشاء، من بيوتهم، في ظل شجرة التوت التي يلعبون تحتها، ويلقي بهم الى أي مصير سود يتلقفهم في الطريق. وقد رسم حتى الخطوط الكبرى لهذا الحلم، ولم يقبل بسوريا وحدها وطناً نهائياً له، شأنه في ذلك شأن كل قومي عربي: «لا انا، ولا أهلي، ولا دولة صغيرة كسوريا العربية قادرة على ان تحمي اطفالي - اعني اطفال العرب - من هذا المصير. القادرة وحدها على ذلك، هي الدولة العربية الكبرى، تلك هي قصيدتي التي أحلم بها، وانها لملحمة هائلة ما أنا - بالغاً ما بلغت - الا قطرة ماء في محيطها العظيم». الحديث ذو شجون بالطبع، ومن حقنا ان نفترض ان هذا الشاعر الذي فتح عينيه على الحياة عام 1921 في قرية صغيرة من لواء الاسكندرون اسمها «النعيرية» وفي حارة من حاراتها تحمل اسم «بساتين العاصي» يمضي شيخوخته في دمشق وهو حزين غاية الحزن، فلا الحلم الكبير تحقق، ولا حتى الحلم الصغير، وهو عودته الى منزله الاول في «النعيرية» وبساتين العاصي، قد تحقق ايضاً. فأواه ثم أواه! ولكني لا اتصوره رافعاً العلم الابيض، او مستسلماً. لقد حارب طيلة حياته بالكلمة. قاتل بالشعر، دافع عن وجوده بالكلمة، وآمن دوماً بأن الحلم الضخم الذي عاشه، او عاش من اجله، جدير بأن يحلم، وبأن يقاتل من اجله، وبأن يستهلك في سبيله جيل او جيلان او ثلاثة.. لا بأس في ذلك ابداً. بل ان ذلك بعينه هو الطبيعي وهو المطلوب. العروبة التي غناها هذا الشاعر النازح، يعرفها بأنها نسيج حضاري هائل ضارب في اغوار التاريخ.. تشابكت فيه ملايين الاصول، والفروع لتعطي الانسان اكرم ما اعطاه شعب على وجه الارض: وأبعد نحن من عبسٍ ومن مضر، نعم أبعد حمورابي وهاني بعل بعض عطائنا الاخلد ومن زيتوننا عيسى ومن صحرائنا احمد ومنا الناس - يعرفها الجميع - تعلموا ابجد وكنا دائماً نعطي وكنا دائماً نُجْحَد! ومن طريف ما ذكره لي مرة ان الشاعر الاسباني الكبير فيديريكو غارثيا لوركا شاعر عربي.. فإذا ما كان وجودنا كعرب ابعد من عبسٍ ومن مضر ومن حمورابي وهاني بعل، فإن هذا الوجود برأيه ابعد عن الوجود العربي المنظور الآن. انه يشمل - على سبيل المثال - شاعراً كلوركا يحسبه بعضهم شاعراً اسبانياً، في حين انه من بقايا الموريسكيين المسلمين، او عرب الاندلس. لم يتردد سليمان العيسى في اعلان قروية لوركا، رغم ان عروبة هذا الشاعر الاسباني عروبة كامنة او مستشرة. لاشك عنده - وعندنا ايضاً - ان لوركا شاعر عربي كبير ولو ان لسانه غير عربي. ان خلاصة اعمار الاندلس واجيالها. انه أحد ابناء «مملكة غرناطة»، كما كان يعرف عن نفسه. اذا كان اجدادنا قالوا قديماً: «الشعر ديوان العرب»، فإن سليمان العيسى عرف الشعر بأنه كهرباء العرب. من تجربته الشخصية بين المحيط والخليج، وصنعاء والاسكندروف، اخذ العبارة بل عاشها رعشة رعشة. ولأن اللغة العربية مسألة جوهرية في ضمير كل عربي، وفي ضمائر النخب على وجه الخصوص، فقد تعامل سليمان العيسى مع الكلمة على انها ليست مجرد شكل لفظي يتألف من حروف وايقاعات صوتية. انها برأيه، جزء لا يتجزأ من وجودنا، من حقيقتنا، من سلوكنا اليومي. الكلمة هي الانسان وفي كتاب الشيخ احمد، والده حفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان ديوان المتنبي رفيق طفولته. وفي النعيرية، قرأ مجلات قليلة كانت تصل اليها مثل (الهلال) المصرية، و(العرفان) التي كانت تصدر في صيدا بلبنان. وعندما وصل الى بغداد، ذات يوم، ليتابع دروسه في الادب العربي، في دار المعلمين الغالية فيها، كان زاده الادبي الذي تربى عليه وهو صغير، زادا اسعفه في تلك المرحلة، كما اسعفه في ما تلا تلك المرحلة من مراحل.