آل سعود والحج: إن قراءة عابرة ومطالعة سريعة لتواريخ أهل الإسلام خصوصا فيما يتعلق بالبلد الحرام والحج تؤكد لنا أن الحج ومنذ دخول الحجاز تحت ولاية آل سعود والجميع يقف على جهود عظيمة وأعمال جبارة وبذل لا حدود له ونفقات لا يحيط بوصفها بيان ولا يحسن تصويرها أبلغ لسان، وإنني على يقين كامل أن خلفاء وسلاطين وملوك المسلمين الذين مضوا قبل آل سعود حاشا الخلفاء الراشدين ومعاوية من بعدهم رضي الله عنهم جميعا لا يمكن أن يقع أو يأتي في تفكيرهم بذل هذه المبالغ المخصصة لعمارة الحرمين الشريفين حاليا أو تجري ولو نطقاً على ألسنتهم فضلا أن ينفقوها أو تسمح نفوسهم بخروجها من خزائنهم لو أدركوا عصرنا الحاضر، ولكنها القلوب المعمورة بالإيمان والنفوس التي ترى كل ما يبذل قليلاً في جنب طاعة الرحمن مخلوفا لا يضيع عند الديان. وفي كتاب الرحلة الحجازية لمحمد بن عثمان البتنوني وهي ضمن المختار من الرحلات الحجازية إلى مكةوالمدينة النبوية وفي صفحة 621 جزء 2 من كتاب المختار من الرحلات الحجازية إلى مكةوالمدينة النبوية قال صاحب الرحلة بلغني عن الشريف المشير الشيخ السيد سلمان الجبلي أحد ذرية الشيخ عبدالقادر نقيب الأشراف ونقيب زاوية جدهِ ببغداد أنه لما قدم إلى الحج منذ ثلاثة أعوام وكان مع الركب فسأل أمين الصرة عن مبلغ مصاريف الدولة العليه على الحرمين الشريفين ولما علمه استصغره جدا وقال له إن خطباء المسلمين في جميع الدنيا ينادون بأن السلطان خادم الحرمين، وهذا المبلغ إذا اعتبرنا منه مصاريف الركب ونظرنا لخصوص ما ينال أهل الحرمين مع كون أوقاف المسلمين على الحرمين من الممالك العثمانية بيد نظارة الأوقاف لا نجد فيه نسبة معتبرة وإني أنا بموجب نظارتي على زاوية جدي ببغداد يصلني في كل سنة من زيارات أهل الأقطار مبلغ أكثر مما يصل للحرمين من الدولة فضلا عن مداخيل وقف الزاوية في سائر الجهات وهي أيضا في نفسها أكثر من هذا المبلغ تصل إلى النقباء والعلماء والمجاورين وتصرف في الإيقاد والتحصير والإطعام العام على ممر الأيام. ولا أنكر أن في الماضين من الدول والسلاطين من كانت لهم أعمال بر ومواقف كرم وبذل، ولكنها حين تقارن بما قامت به هذه الدولة فهي تورد في مقام الذكر والشكر وليس في موضع المقارنات، وإنما في باب المساعي والمحاولات. لكن سيظل أمن السبيل وتأمين الحاج ببسط سلطان الدولة وقمع المفسدين يد آل سعود الخالدة عل كل مسلم ومسلمة في مشارق الأرض ومغاربها تفردوا بها عن كل الدول والممالك الإسلامية لا ينازعهم فيها أحد أو يدعي شرفها سواهم فحق لهم الفخر بها إلى آخر الدهر وأما المكوس والمظالم فشيء يفوق الوصف ويعتصر القلب فقد ذكر صاحب كتاب إفادة الأنام في ذكر أخبار البلد الحرام الجزء الثاني صفحة 497 ناقلا عن ابن جبير صاحب الرحلة أنه كان يأخذ من كل إنسان سبعة دنانير مصرية ونصف فإن عجز عن ذلك عوقب بأنواع العذاب الأليم بتعليقه من منطقة حساسة من جسده إنه التاريخ ينصف الدول ويشهد للملوك تاريخ لا يشابهه تاريخ ومجد لا يُدانيه مجد وشرف لا يطاوله شرف لأئمة وملوك تقاصرت عن مساماتهم همم الملوك السابقين وضعفُت عن نيلها عزمات السلاطين الغابرين ممن كانوا قبلهم. كانت الخلفاء في الغالب يقومون بفريضة الحج في صدر الإسلام حتى يقفوا بأنفسهم على حال رعاياهم وقد أفادهم هذا الأمر في سياسة ملكهم داخله وخارجه سياسة عظمى ومن كانت مشاغل الملك تحول بينه وبين تلك الفريضة أناب عنه على الحج رجلا من قرابته أو من عظماء أمته ومازالوا يتراخون في هذا الأمر حتى صار من النادر أن نسمع بسلطان أو خليفة أو ملك يقوم بأداء تلك الفريضة بعد الخليفة العباسي الرشيد لم يحج خليفة عباسي من العراق وسلاطين بني عثمان لم يحج منهم خليفة واحد وخلفاء المسلمين الذين كانوا قبلهم نستثني القرون المفضلة لم يذكر التاريخ أن أحدا منهم كان يحج إلا نادرا. و لكن أئمة وملوك آل سعود تتابعوا طوال تاريخ ولايتهم على الحرمين الشريفين على مباشرة أمور الحجيج بأنفسهم ورعاية الحج والقيام على شؤونه فهم يرونه من أوجب وأكرم وأشرف أعمالهم فكيف يقوم به غيرهم أو يتولاه سواهم. فهو لهم من أعظم الطاعات وأجل القربات لله عز وجل يحدثنا التاريخ أن الإمام سعود الكبير رحمه الله حج 9 حجات كما ذكر ذلك ابن بشر رحمه الله رغم الظروف العصيبة التي كانت تحيط بدولته وتربص الأعداء بها بل إنه رحمه الله أعاد سنن الخلفاء الراشدين حينما خطب الناس في عرفة عام 1225 وجاء الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله ليسير على نهج أسلافه العظام فكان قبل ظهور وسائل النقل الحديثة يمضي قرابة شهرين كل عام في رحلة الحج ذهابا وإيابا رغم معاناة التنقل وصعوبة الظروف وقسوة الحياة ولهيب الصحراء ورمالها التي تجعل الحركة معاناة بحد ذاتها وفي أخريات عمره وقد أرهقته الشيخوخة وأثقلت كاهله السنون التي أمضاها يقيم الدين والملة وينصر التوحيد والسنة ويحامي عن بيضة الإسلام فقد ظل يتحامل على نفسه ويجاهد قواه ويحضر مواسم الحج فلولا انه كان يعد رحلته دينا وقربى وزلفى إلى الله يبتغي أجرها ويؤمل مثوبتها وإلا لكان ينيب عنه نجليه الملك سعود أو الملك فيصل رحمهم الله جميعا وهما موضعا ثقته المطلقة ولكنها الآخرة والسعي لها وأهله فحياته رحمه الله ليست تاريخا له وحده أقامه لنفسه أو شرفاً رفعة لأمته أو مجداً أقامه لوطنه وإنما عقدا من اللآليء نظمه فطوق به جيد الإسلام فأضاءت أنواره الدنيا كلها وتجمل به أهل الإسلام على مر الدهور والأعوام. وما زال خالدا في ذاكرة المكان والزمان السنة التي ألزم بها نفسه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز طيب الله ثراه وجعل في عليين مثواه حين كان يجاور البيت العتيق في العشر الأواخر من كل رمضان فتصبح مكة معها عاصمة الدولة يتوافد عليها زعماء المسلمين للقاء جلالته والتباحث معه ولن تغيب من ذاكرتنا مشاهد زياراته للمدينة المنورة وصلاته في المسجد النبوي، حيث يمضي مع أركان دولته أسابيع عدة يشرف فيها ويتابع أعمال التوسعة للمسجد النبوي وقد مضى على منواله وسار على طريقته خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله ورعاه في إحياء هذه الطريقة كل عام لقد أعاد آل سعود للحج قداسته وروحانيته وعظموا هذا الركن وحققوا معاني الحج ومقاصده التي فرض من أجلها فكانت دولتهم دولة التوحيد وأصبحت هذه الشعيرة تحت ولايتهم تحقيقا للتوحيد وتجسيدا صادقا له. يدل على ذلك ويشهد له كيفية الصلاة في المسجد الحرام فيما مضى للحرم أربعة أئمة فأول الأئمة السنية الشافعي ثم المالكي والحنبلي وصلاتهم مع صلاة المالكي في حين واحدة، وهذا في غير المغرب فإن الأربعة أئمة يصلونها في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها يبدأ المؤذن الشافعي بالإقامة ثم يقيم مؤذنوا سائر الأئمة وربما دخل في هذه الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة فربما ركع المالكي بركوع الشافعي أو الحنفي أو سلم أحدهم بغير سلام إمامه فترى كل أذن مصيخة لصوت إمامها أو صوت مؤذنها مخافة السهو ومع هذا فيحدث السهو على كثير من الناس فكيف سيكون حال المصلين وهم بالملايين هذه الأيام مع وجود مكبرات الصوت هذا ما ذكره بن جبير في رحلته صفحة 57 الجزء الثالث من المختار من الرحلات الحجازية إلى مكةوالمدينة النبوية وأيضا توحيد الوقوف بعرفة فقد ذكر المؤرخ أحمد السباعي في كتابه تاريخ مكة الجزء الأول ص 301 أن يوم عرفة كان يتكرر في الموسم الواحد فقال ومن غرائب عام 688 أن الناس وقفوا في عرفات يومي الجمعة والسبت لاختلاف ثبوت الرؤيا لدى أمير الركب الشامي عنها لدى الشيخ محي الدين الطبري شيخ الفقه في الحجاز وليست هذه الأولى من نوعها فقد تكرر مثلها عدة مرات في تاريخ مكة. وذكر ابن جبير في رحلته ضمن المختار من الرحلات الحجازية إلى مكةوالمدينة النبوية الجزء الأول ص 100 . يقول ثم إنه يوم الجمعة المذكور اجتمعوا إلى القاضي فأدوا شهادات بصحة الرؤيا تُبكي الحق وتُضحك الباطل فردها وقال يا قوم حتى متى هذا التمادي في الشهوة وإلى متى تستنون في طريق الهفوة واعلموا أنه قد استُأذن الأمير مكثرا في أن يكون الصعود إلى عرفات صبيحة يوم الجمعة فيقف عشية بها ثم يقف صبيحة يوم السبت بعده ويبيت ليلة الأحد بالمزدلفة فإذا كانت الوقفة يوم الجمعة فما عليهم في تأخير المبيت بمزدلفة بأس إذ هو جائز عند المسلمين فإن كانت يوم السبت فيها ونعمت وإما أن يقع القطع بها يوم الجمعة فتغرير بالمسلمين وإفساد لمناسكهم لأن الوقفة يوم التروية عند الأئمة غير جائزة كما أنها عندهم جائزة يوم النحر. وذكر العياشي في رحلته المسماه بماء الموائد الجزء الأول صفحة 322 وعلى طول إقامتي في المدينة لم أدري كيفية تصرف الولاة بها ولا من له التصرف التام بها فإن شيخ الحرم وهو كبير الخدام كما تقدم تنفذ أحكامه وكبير العسكر الساكنين القلعة أمير أيضا وابن عم السلطان زيد وزوج ابنته السيد ثقبه النائب عنه في النظر في مصالح البلاد كذلك والحاكم الذي يسجن ويضرب ويقتل ويؤدب وهو من خدام السلطان كذلك والأمير الذي تنسب إليه إمرة المدينة كذلك ولا أعلم هل لكل واحد من هؤلاء ولاية على قوم بالخصوص أو على عمل من الأعمال. وجاء في كتاب الإعلام لمن حل مراكش وأغمات من الأعلام للعباس إبراهيم الجزء العاشر صفحة 70 قال حدثنا جماعة وافرة ممن حج مع المولى إبراهيم في تلك السنة أنهم ما رأوا من ذلك السلطان يعني بن سعود ما يخالف ما عرفوه من ظاهر الشريعة وإنما شهدوا منه ومن أتباعه غاية الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من صلاة وطهارة وصيام ونهي عن منكر وتنقية الحرمين الشريفين من القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهارا من غير نكير وأما المؤرخ المصري الجبرتي رحمه الله فما سجله وكتبه وسطره قلمه من شهادات تصور حال دخول آل سعود لمكة عام 1218 فلا أظن أحدا يستطيع لو أراد أن يمدح نفسه أو يبحث عن دعاية لدولته يمكن أن يجد أفضل من عبارات وألفاظ الجبرتي ثناءا وإطراءا فقد كان يتحدث عن جيش قادته وأفراده جاءوا من الصدر الأول للإسلام وليس من العصر الذي عاش فيه الجبرتي حيث كان العالم الإسلامي كله يعاني من حالة النزاع والفوضى التي لا يمكن لأحد أن يتصور مبلغ السوء الذي صارت إليه والحمدلله انه لم يكن حينها نفط قد ظهر وإلا لقيل إنه المال والسحر. لقد كان بين الجبرتي والحجاز صحار وبحار ومع ذلك بلغته الأخبار وصحت عنده الآثار وتواتر لديه النقل بالتغيير الذي حدث في تلك الديار فصدع بالحق لأن الكلمة أمانة يجب أن تؤدى وتقال فأورد في تاريخه صفحات هي وثيقة شرف في جبين الدهر تشهد للدولة السعودية بتدينها وعدلها وصحة المبادئ وسلامة الأفكار وصدق المنهج وعدالة القضية لقد دفع حياته ثمنا لهذه المواقف الصادقة والشهادة العادلة ولا غرو فهو المؤرخ الحر صاحب القلم النزيه الذي لا تستهويه حظوظ النفس أو تستميله الأطماع فتحول القلم في يده إلى سيف حارب به محمد علي باشا فاضحاً ظلمه وكاشفاً تعديه على الدولة السعودية وما يزال هناك جزء مفقود من تاريخ الجبرتي لا بد أن يكون فيه ذكر عاطر للدولة السعودية وتاريخ يفوح عبق طيبه وبيان لمآثرها ولعله السبب في حنق محمد علي باشا عليه وقتله له في الأخير لقد زال سلطان محمد علي باشا وتساقط خصوم الدعوة والدولة وبقيت هذه الدولة لأن ما قامت عليه ونادت به هو الحق الذي تكفل الله ببقائه وظهوره إلى يوم الدين وفي درر نحور الحور العين بسيرة الإمام المنصور علي وأعلام دولة الميامين صفحة 403 وفيها وصلت الأخبار بصلاح طريق حاج اليمن بسبب صاحب نجد يقصد الإمام سعود الكبير الدولة السعودية الأولى. وفي الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا لمؤرخ الدولة العلوية أبو القاسم الزياني يورد قصيدة لمن سماه فقيه أفقه وأديب وقته حمدون بلحاج وفيها: وقال شكيب أرسلان في رحلته الارتسامات اللطاف والواقعة ضمن مجموع الرحلات الحجازية إلى مكةوالمدينة النبوية جزء 3 صفحة 1019 فقال والحقيقة أن الحج لا يزداد ولا تزاد خيراته وأرزاقه إلا بأمرين أحدهما الأمان وأسباب الراحة، وأما الأمان فقد توافر في أيام بن سعود إلى حد لا يتطلع فيه مُتطلع إلى مزيد، وإنما يرجو دوام هذه النعمة وأقول تعقيبا على عباراته وهي أسباب الراحة ولو أدرك عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أيده الله لقال عن أسباب الراحة مثلما قال عن الأمن أيام والده العظيم ولرأى نعمتي الأمن وأسباب الراحة تجتمعان سوية يرفل ويتقلب فيهما كل حاج ومعتمر. وذكر أيضا عبارات تصور الحالة الأمنية بين العهدين السعودي وسابقيه فقال في الجزء الثالث صفحة 1037 «فسبحان الذي أدال من تلك الحال لهذه الحال وأوقع الرعب في قلوب الدُعّار في السهول والأوعار» وذكر أيضا وفي كل يوم يؤتى إلى دوائر الشرطة في كل بلد بأمتعة وأسباب وحوائج وأموال منها الكثير ومنها القليل ومنها الثمين ومنها الخسيس مما يجده السابلة في الطريق اتفاقا فلا تجد أحدا يطمع في شيء بعد أن كان الدُعّار يذبحون ابن السبيل من أجل حاجة لا تكاد تساوى قطميرا» وذكر محمد لبيب البتنوني صاحب الرحلة الحجازية وهي ضمن المختار من الرحلات الحجازية إلى مكةوالمدينة النبوية الجزء الثاني صفحة 815 أن الحجاج يقضون حاجتهم بين رحالهم ومن ابتعد عناه لابد أن يكون معه أنيس يحرسه عند اشتغاله بنفسه وإلا فإنه لا يُحرم واحدا من الأعراب ينقض عليه ويضربه في رأسه بعصا يابسه قصيرة تخمد معها أنفاسه وهناك يُشلحه من ملابسه أو يكتفي بقطع كمره من حزامه أو من ذراعه فإذا استغيبه صحابته قاموا للبحث عنه فيجدونه إما فاقدا للحياة فيقومون بمواراته التراب على حاله وإما فاقدا لشعوره فيأخذونه ويقومون بشأنه وقليل من ينجو من هذه الضربة علما أن حوادث الاعتداء هذه سجلها مشاهدة وذكرها في حجه عام 1327 وذكر الكاتب المصري إبراهيم المازني في رحلته إلى الحجاز وهي ضمن المختار من الرحلات الحجازية إلى مكةوالمدينة النبوية الجزء الثالث صفحة 1098 وجعل عنوانا لها بقوله «كانوا سفاكين فساروا سائلين» فقال وقد يستغرب القارئ إذا علم أن هؤلاء هم سلالة الذين كانوا يقطعون الطريق على المحمل المصري وعلى المحمل التركي إذا لم يعطوا مالا طائلا فقد كانوا بالأمس القريب يملون إرادتهم على الجيوش المسلحة ويمنعونها من السير ليلا أو نهارا أما اليوم فإنهم يظهرون الذلة والمسكنة للسؤال والاستجداء وإذا سرت وحدك في تلك الصحاري بلا رفيق ولم تشأ أن تعطي أحدا شيئا فلا يجرؤ واحد من هؤلاء على مد يده إليك بسوء وهكذا حول الملك السعودي تلك النفوس الشريرة إلى نوع من الخوف لا يكاد الإنسان يصدقه فمع شدة البؤس لا يغامر أحد بخطف شيء ولو كان بلا حارس وما ذلك إلا لشدة بطش الحكم السعودي وتطبيق الشريعة الإسلامية على السارق بقطع يده والعابث بالأمن بقتله أو تقطيع يده ورجله من خلاف أو نفيه من الأرض مما جعل الأمن مستتبا بكيفية لا عهد لهذه البلاد بها من قبل إلا في أول عهد الخلفاء الراشدين على ما أعتقد. الأمنية التي أود أن تتحقق: والرجاء في صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز ولي العهد وزير الداخلية رئيس لجنة الحج العليا وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع رئيس دارة الملك عبد العزيز وهما من رجالات الدهر عقلا ورأياً وإدراكا ووعيا ورثا عن أبيهما أسد الجزيرة عبد العزيز رحمه الله زعامته وعبقريته وتلاقت فيهما أخلاقه وصفاته فالأمير نايف وهو جبل الحكم وحكيم الدولة الذي أمضى مسئولا وقائما على الأمن و توطيده في البلاد كلها والحج تحديدا قرابة الأربعين عاما من حياته المديدة والمباركة ساهرا وراعيا وساعيا في تحقيق وترسيخ الأمن ودفع ومنع ما قد يعكر صفو هذه النعمة ولا أعلم في تاريخ الإسلام من قام على أمر الحج وتقلد مسئولياته وباشر مهامه كل هذه المدة سواه وهذا من توفيق الله له وكمال حفظه عز وجل للمسلمين في أمنهم وحجهم وكذلك صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز طود نجد الشامخ وأسدها الهصور, وأحد الرجال الذين لا يأتي الزمان بهم إلا قليلا يقف ومنذ أكثر من خمسين عاما مرابطا على ثغر من أعاظم ثغور الدين والدولة وما رأيتُ سموهما إلا وتذكرت الحديث «عينان لا تمسهما النار عين باتت تحرس في سبيل الله» وهذه هي حقيقة حالهما وأما الأخرى فلست في شك منها وكلي رجاء في سموهما الكريمين بالنظر في فكرة أن يصاحب أيام الحج برامج وثائقية تاريخية يستعرض فيها تاريخ الحج فيما مضى ويتناول بالحديث ما كان يحيق بالحجاج وينالهم ويحيط بهم من الشرور والمهالك ويكون فيه النقاش حول ما كتبه المؤرخون وما سطروه شهادة لله وبيانا للحق وطباعة كتب ترصد كل ما مضى من معاناة وتوثق جميع ما حل من المصائب وتورد ما حدث من الكوارث وتذكر ما قد جرى من المحن التي كانت تقع في السابق وعانت منها شعائر الحج والبلد الحرام في القرون الخالية ليقف الحجاج بأنفسهم على الحقائق ويطالعوا ويقارنوا بين أحوال الحج وأوضاعه في السابق والحال التي صار إليها في هذه الأيام. وأظن القارئ الكريم وقد نظر في هذا الكلام قد يشكك فيما أوردته أو سيتهم عينيه فيما قرأ كونه أمرا لا يصدق لولا أنه ثابت بالتواريخ متواتر النقل عن الثقات والأثبات فالمشاعر المقدسة والحرمان الشريفان أرداهما الله أرضا آمنة مطلقا حتى الشجر لا يعضد والطير لا ينفر واللقطة لا تلتقط مبالغة في أمن وتعظيم البلد الحرام فكيف أصبحت حال هاتين المدينتين وشعيرة الحج معهما وكيف بلغت هذا الوضع المأساوي فغدت معها المشاعر المقدسة ساحات قتال وميادين حروب لا يكاد يسلم حج من نفوس تزهق ودماء تسفك وأموال تسلب وأصبحت هذه الحال وكأنها القاعدة أما الاستثناء فهو الأمن ولا أظن بلادا عانت من ويلات القتال والتنازع والفوضى وما ينتج عنهما كمكةوالمدينة وذهب الركن الخامس من أركان الإسلام ضحية لهذه الحوادث الواقعة في تلك الديار ودفع ثمن العبث والتخاصم وتجاهل سلاطين وخلفاء المسلمين لما كان يقع ويحدث في تلك النواحي طالما أن بلادهم بمنأى عنه ولا تتأثر به حتى جاء الله بهذه الدولة فرفع بأئمتها البلاء وأزال بجيوشها الخوف وكشف بسلطانها الغمة ودفع بها الشرور فبسطت سيوفها الأمن على الحرمين الشريفين. وختاما أعجب من جامعاتنا وأقسام التاريخ فيها وأوجه سؤالي للقائمين عليها والمسئولين عنها كم رسالة علمية مسجلة لديها أو تمت مناقشتها تتعلق بأمن الحج ودور الدولة السعودية في تحقيقه وبالتأكيد سيأتي الجواب خجولا وليس ثمة ما يستغرب فالرجل الذي أقام هذه الدولة وبنى هذا الكيان وكان له القدح المعلى والسبق الفريد في هذا المضمار وهو الملك عبد العزيز رحمه الله ومع ذلك فما زال هناك قصور شديد في الدراسات والبحوث التي تتناول شخصيته وتبحث في جوانب عبقريته ونواحي عظمته التي حيرت وأذهلت الدنيا كلها. ذكر العياشي في رحلته المسماه بماء الموائد والتي قام بها في عام 1072. ص 324 ج 1 وهي ضمن المختار من الرحلات الحجازية إلى مكةوالمدينة النبوية. وقدم خلق كثير من الأعراب وكان في المدينة سوق عظيمة وامتلأ المسجد وجوانبه فما من يوم إلا ويزداد الخلق فيه كثرة وأكثرهم عرب جفاة ليس لهم دين ولا مذهب جلهم لا يعرف صلاة ولا صوما فتدخل جماعة منهم المسجد غاسلين أطرافهم يريدون الصلاة على زعمهم فيقف أحدهم مليا ثم يسجد على قدر ما يرى إما ثمان سجدات أو عشر سجدات أو أكثر على حسب نشاطه ثم ينصرف وغالبهم على هذا الوصف ومنه أفراد يدينون دين الحق وقال أيضا ص 325 وبالجملة فعرب الدرب والحجاز وتهامة ونجد أجهل العرب وأكثرهم جفاءا قلما تجد أحدهم يحسن شيئا من رسوم الشريعة الظاهرة من صلاة وصيام إلا القليل وعوام الأعراب والبربر بمغربنا بالنسبة لهؤلاء فقهاء فلا تجد عاميا بالمغرب وإن بلغ الغاية في الجفاء إلا وهو يعلم أن الصلاة ذات ركوع وسجود وإن كان لا يحسن أن يقرأ فيها ويعلم وجوب صوم رمضان بل هو أشد عندهم من الصلاة بخلاف هؤلاء وأخبرني مخبر عن عرب الدرب أنه سأل بعضهم هل صام أم لا وهو رجل كبير كهل فقال إني إلى الآن لم أصم لكن أبي صام ثلاثة أيام فاستفهمه عن ذلك فقال إن الرجل عندنا إذا قارب أوان الهرم والشيخوخة صام ثلاثة أيام فيقولون فلان صام وذلك علامة بلوغه حد الكبر وأما قبل ذلك لا يعرف صيام ولا غيره وهم جديرون بذلك لبعدهم عن الأمصار و قلة القرى في بلادهم فلا يجدون أحدا يعلمهم الخير ولا يرشدهم إليه وعلى تقدير دخولهم الأمصار في بعض الأحيان فلا يلقي إليهم أحد بالا ولو رآهم أكبر فقهاء الأمصار يصلون الصلاة المتقدمة من تتابع السجدات لا يزيد على أن يضحك منهم أو يتغافل ويذهب عنهم فمتى يعرف هؤلاء صلاة أو صياما أو حد من حدود الشريعة ولقد رأيت رجلا بينبع ظهر الشيب في مفرقه فسألته عن مكة فقال لي ما حججت قط وبينه وبين مكة ثمانية مراحل وأظن العياشي وقد توفي قبل ظهور الدولة السعودية ومع ذلك جاء كلامه شاهدا بصدق ما أورده مؤرخا الدولة السعودية ابن بشر وابن غنام رحمهما الله وموافقا لنقلهما لكن أحدا لن يتهم العياشي بالحماسة للدولة والدعوة وأنها الباعث له على تصويره للوضع العقدي بهذا السوء ورسم حال قاتمة للأوضاع الدينية القائمة لقد كانت عبارات العياشي تحديدا دقيقا لدور السلطة الغائب وتوصيفاً وتوضيحاً لوظائف الحكومة وواجبات العلماء. فنجد الدولة السعودية في كل النواحي التي خفقت عليها راياتها وانضوت تحت لوائها تعليم الناس أمور الدين والشريعة وإلزامهم بذلك يسبق ويتزامن مع دخولهم العسكري إليها. فحال هؤلاء الأعراب وحسرات العياشي على أوضاعهم وألمه على أحوالهم وشعوره بالمأساة تجاههم لفقدان من يهتم بأمرهم أو يسعى في تعليمهم الخير وإرشادهم أمور الدين لم تذهب عبثا بل هو عين ما قامت به الدولة السعودية بعد ذلك. وما زلت أقول إن الدولة السعودية ظهورا وقياما ووجودا وبقاء في أدوارها الثلاثة كلها تمثل أعدل قضية معاصرة في القرون الثلاثة المتأخرة ينبغي على كل مسلم صادق الديانة أن ينذر نفسه للمنافحة عنها فما أحدثته من تغيير هائل في تاريخ الإسلام والمسلمين وما أعقب قيامها من الآثار العظيمة والنعم الجليلة في الدنيا و الدين مما لا حد له لهو أمر عظيم الشأن يجب أن يتولى التعريف به وعرضه على الموافق والمخالف من يملك الفهم والإدراك الواسعين والعميقين لمفاهيم الإسلام والتوحيد ومقاصد الشريعة والتصور الدقيق لمعنى الولاية والسلطان وما تمثله هذه الدولة المباركة للإسلام من ركائز قوية وقواعد صلبة ضرورية ومهمة تتصل به قوة ومنعه. لقد أدرك السابقون ممن عاصروا فترات الإمارات السابقة وعاشوا الأوضاع السيئة وعانوا من الأحوال الأمنية المتردية وفوضاها التي كانت سائدة في الجزيرة العربية أهمية وضرورة وحاجة مجتمعات الجزيرة العربية لهذه الولاية فكان تفاعلهم معها ودفاعهم عنها وحماسهم لها أمرا منقطع النظير فما كان عبدالعزيز بوثبته الكبرى وسطوته الخالدة صبيحة الخامس من شهر شوال عام 1319 فاتحاً للرياض في حقيقة أثره وقوة وقعه وإنما زلزالا مادت معه أرض الجزيرة لهوله فتحرك مدار الزمان والمكان من قوته وتغير كل شيء فتجاوبت الجزيرة العربية لعنف الهزة فتنادى الناس نحو الرياض لهول الصيحة فقد كان زئير الأسد رنة لامست أسماع الرجال والعقلاء والأحرار وقبل ذلك العلماء فتسارعوا نحوه ينضوون تحت لوائه ويسيرون خلف رايته راية التوحيد والسنة ويفاخرون بأنهم من جنده لقد توقف لحظتها كل شيء في الجزيرة وكان التاريخ نفسه أول الواقفين..