الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فمن المظاهر المؤسفة ما يسلكه بعض كتاب الانترنت من مسلك رديء، ومنهج سيئ يتمثل ببعض الكتابات التي تحمل في ثناياها الكذب والبهتان والزور والهذيان، فلا دين يمنع، ولا تقوى تردع، ولا ورع يزم، ولست بصدد ذكر ما اشتملت عليه تلك الكتابات، وانطوت عليه تلك المقالات، فلسنا بحاجة لحكاية الاساطير والترهات، ونقل الاباطيل والخرافات، بقدر ما نحن بحاجة لمعرفة دوافع هذه الكتابات، وصفات اصحاب تلك المقالات، ومن خلال الكلام، وعن طريق المقال يستنبط الفطناء، ويعرف اولوا الالباب والعقلاء، الاسباب والدوافع، والغايات والمقاصد، فإذا ما عرف السبب: بطل العجب. وصدق الله جل وعلا: {ولتعرفنهم في لحن القول} فإن لم يتضح لنا اولئك بسيماهم ولا في شخصهم، فليس بالعسير ان نتعرف عليهم عن طريق كلامهم، وما يجري على ألسنتهم من زور وبهتان، فإن كلمة الزور تخرج باهتة عليها مسحة من الخزي والتخاذل، وقد قيل: البعرة تدل على البعير، والاثر يدل على المسير. ان ما تكنه الضمائر، وما تخفيه الصدور من سرائر، لا يعلمه إلا علام الغيوب، فإذا ما غرف اللسان المغطى، واظهر المخبأ: عرف من عرف وجهل من جهل.. بل يزيد الامر تأكيداً ذلك الاسلوب الخفي الذي خرج من خلاله هذا الكلام، وظهر به ذلك المقال: والذي اندس به اصحابه عن الأعين، واستتروا به عن الانظار، وقد ثبت في صحيح مسلم رحمه الله من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والاثم فقال: (البر حسن الخلق والاثم ما حاك في صدرك وكرهت ان يطلع عليه الناس). فهم قد كرهوا ان يطلع الناس على ان هذا الكلام من كلامهم، وذلك المقال من قولهم، وليت ان اثمهم ذلك حاك في صدورهم، وغصت به حلوقهم، بل نفثوه من تلك الصدور، واخرجوه من تلك النحور، كما تنفث وتخرج الحية سمها، فخرج من كونه اثماً باطناً خفياً، الى كونه اثماً ظاهراً جلياً، وليتهم حين اظهروه ابقوه على حاله: اثماً واضحاً لا يحتاج الى ايضاح، ظاهر للعيان لا يخطئه نظر او فهم، بل جعلوه مع ظهوره اثماً محجوباً بشيء من الخداع والتمويه، حيث ألبسوه لباس النصح، ولباس الغيرة، حتى غدا هذا التلبيس اشد فظاعة، واعظم جرماً من كذبهم وزورهم، وظلمهم وبهتانهم، بل ان هذه الاشياء لتستمد فظاعتها من هذا التمويه الكاذب، والطلاء الزائف. إن الذي تغلبه نفسه، فتحمله على ارتكاب مأثم من المآثم، وهو على علم من ان ما يفعله هو منكر حرمه الله على المسلمين، ورصد لمقترفه العقاب الاليم، هذا الانسان هو خير من ذلك الذي يتأول في شرع الله، فيحل الحرام، ويفتح له من التأويل باباً يدخله منه الى ما أحل الله جل وعلا، ان الاول مؤمن عاص، يعلم من أمر نفسه انه منحرف عن الطريق القويم، خارج على اوامر الله ونواهيه، وهذا العلم من شأنه ان يزعج مرتكب المنكر وينخس ضميره، فلا يستمرئ هذا المنكر ولا يستسيغه على اطلاقه، وقد يجيئ اليوم الذي يرجع فيه الى الله، وينتهي عما نهى الله عنه، اما الآخر - وقد تأول للحرام وادخله مداخل الحلال - فإنه لن يجد لهذا الحرام مرارة في نفسه، ولا وخزاً في ضميره، ومن هنا فلن تكون له الى الله رجعة عن هذا المنكر، الذي خادع به نفسه، وخدع به عقله، وخالف ربه، وحاول ان يخدع به الآخرين، إلا ان يشاء الله جل وعلا هدايته. وتجدر الاشارة الى امر مهم وهو: ان هذا اللباس الذي تلبسه هذه الفئة باسم النصح والغيرة، انما هو حيلة شيطانية للكيد للدين، والكيد للمسلمين، ولذا لما دخلت النصرانية اوروبا، وانتشرت فيها انتشاراً ذريعاً، تصدى لها اليهود، فدخل كثير منهم النصرانية كذباً، واجتهد كثير منهم في الدعوة لها زوراً وبهتاناً، حتى اذا بلغ مكانة بين النصرانيين، لعب بالدين، ومسخ تعاليمه، وجاء الى الناس بالمفتريات والاباطيل، حتى كانت تلك الحروب التي اشتعلت في اوروبا بين العلم والدين، واذا العلم في مواجهته للدين يجد الطريق مهيأة له، للنيل منه، بل والقضاء عليه. ان المعركة الكلامية التي يخوضها هؤلاء والتي هي من جانب واحد، هي: معركة الكيد والدس، ذلك الميدان الذي يحسن فيه خفافيش الظلام العمل، اما لو انتقلوا الى ميدان النور والوضوح، الى ميدان الانتماء والانتساب، الى ميدان المواجهة، فإنهم لا يلقون إلا الخزي والخذلان، لكنهم أجبن وأذل من ان يظهروا شخصهم، ويبدوا صفحتهم، بل انى لثعالب المكر ان تتصدى لأسد الشرى، وهل للجبناء ان يردوا هذا المورد؟ او ان يجازفوا تلك المجازفة المهلكة؟ من اجل ذلك يجدون في الظلام انساً لوحشتهم، واملاً في محنتهم، وصدق الشاعر: خفافيش اعماها النهار بضوئه ووافقها قطع من الليل مظلم انه استتار ينضح منه الجبن، ويفوح منه الهلع، ولو كانوا شجعاناً ولا - اخالهم - لانتسبوا، ولو كانوا ابطالاً ولا - اظنهم - لانتموا، لكن كما قيل: غلب الطبع على التطبع. إن ما يكتبونه لا يخرج عن كونه حقاً او باطلاً، فإن كان حقاً - ولا اظنه - فقد ضعفوا عن حمله، وان كان باطلاً - وهو الواقع - فقد جبنوا عن قوله، فليسوا بالبررة الاتقياء، ولا الفجرة الاقوياء «كما قال الشعبي» بل حازوا السوأتين: فجور وجبن، وصدق المثل: «أحشفاً وسوء كيلة؟». لقد كان العرب في الجاهلية والاسلام: أهل شجاعة وجرأة، وبسالة ونجدة: فإن كانت حربهم بالسيف والسنان برزوا للخصوم، واطردوا على الخيل، وتبارزوا في الميدان، وجهاً لوجه، ورجلاً لرجل، وان كانت حربهم باللسان والبيان، تواعدوا في المواسم، وتقابلوا في الاسواق والمحافل، فإذا ما التقوا تناسبوا وتناثروا وتراجزوا وتشاعروا، فهم بين غالب ومغلوب وهذه سنة الله في خلقه (وتلك الايام نداولها بين الناس). لكن لا نرى شيئاً من ذلك في هذه الفئة المتخفية، بل نراهم يتحدثون من خلف ستار، ويتكلمون من وراء جدر، حتى اشبهوا بهذا الفعل اولئك الجبناء الذين قال الله فيهم: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة او من وراء جدر}. بل ان أقل احوالهم انهم بهذا الاستتار اشبهوا ربات الخدور، وصاحبات الستور، وليس ذلك عن حياء وطهر، بل عن جبن وخور، والمفارقة العجيبة انك ترى بعض نساء العصر قد برزت للجموع، فأظهرت قولها، واعلنت رأيها، مقابل ذلك ترى بعض رجال اليوم استتروا واختبؤا، وصدق الشاعر: وما عجب ان النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجيب ان كتاباتهم الخفية تشهد شهادة ناطقة بأنهم حرب على المسلمين، ولو كانوا صادقين لصاروا اولى الناس بمناصرة اخوانهم، ومناصحتهم ان كان ثمة خطأ، بالاساليب الشرعية، والآداب المرعية، لا ان يكونوا في الجبهة الاولى من الجبهات المعادية للمؤمنين والمسلمين، اذ يتقدمون في هذا الموقف اللئيم على غيرهم من كفار ومنافقين، فيكونون وللاسف قادة الحملة الموجهة لحرب المسلمين، وايذاء المؤمنين، لكن لا ثمن لضمير، ولا حساب لشرف، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ان مما ادرك الناس من كلام النبوة الاولى اذا لم تستح فاصنع ما شئت). وصدق الشاعر: بلاء ليس يعدله بلاء عداوة غير ذي شرف ودين يبيعك منه عرضاً لم يصنه ليرتع منك في عرض مصون لقد بدت البغضاء من افواههم، وما تخفي صدورهم اكبر، فمن تلك الافواه تتساقط الكلمات المسمومة والتي صوبوها لمن؟ للمسلمين، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال:(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه). هذا لفظ البخاري. وليس هذا الذي يتساقط من افواههم إلا شيئاً قليلاً مما تنطوي عليه قلوبهم من حسد وغيظ، وما تفيض به مشاعرهم من عداوة وبغضاء. وان تعجب فعجب من متلقفي الكذب، ومستقبلي السوء دون بينة او برهان، الذين جيروا عقولهم، والغوا كيانهم، لكنه التقليد الاعمى، والمتابعة الحمقاء، التي يسلم فيها المرء وجوده كله لغيره، دون ان يجعل لعقله حق النظر والاختيار، ودون ان يجعل لما قرأته العين، وسمعته الاذن، حظ من تثبت، او نصيب من تبين، وانه لعدوان اثيم على الكيان والشخصية وذلك بحرمانها ان تستقل بقناعاتها. إنه ما ان يقرأ هؤلاء الامعات وقيعة، ويلحظوا تهمة، إلا ويجتمعون عليها اجتماع الذبان على القذارة، واخلق بالغيبة والبهتان، والكذب والافك، والسباب والشتام، ان يكون قذارة، فتراهم يعلقون على ما يقرؤون وكأنه حقيقة ثابتة، ويعقبون على ما يلحظون وكأنه واقع قائم، أفليس هذا الفعل بمثابة الشهادة؟ فإن لم يكن ذلك الفعل شهادة زور، فما شهادة الزور؟ والله جل وعلا يقول: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}. إن ما وقعوا على صحته، وشهدوا على حقيقته، لا يخلوا من أمرين: الاول: ان يكون كلاماً صحيحاً، والثاني: ان يكون كذباً. فإن كان الاول فقد وقعوا في الغيبة، وان كان الثاني: فقد وقعوا في البهتان، فضلاً عن شهادة الزور، فهم بين كبيرتين من الكبائر، وعظيمتين من العظائم، وقد ثبت في صحيح مسلم رحمه الله من حديث ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت ان كان في أخي ما اقول قال: ان كان فيه ما تقول فقد اغتبته وان لم يكن فيه فقد بهته). أين هم عن قول الحق جل وعلا: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون} قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: «فإذا كان هذا الوعيد لمجرد محبة ان تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو اعظم من ذلك، من اظهاره، ونقله؟ وسواء كانت الفاحشة، صادرة، او غير صادرة »أ. ه . بل أين هم عن قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الايمان الى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة اخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) رواه الترمذي. ان خصمه في ذلك رب الارباب، الذي يعلم السر واخفى، فهل له طاقة بالله؟ كلا ثم كلا، وهذا مصداق قوله جل وعلا: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}. إن نشر الشائعات، ونسج الاساطير والخرافات عن الآخرين، ليس بالامر الهين، والله جل وعلا يقول: {وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} انهم يستخفون بالكلمة، وينفقون من رصيد ألسنتهم بغير حساب، بل ان لكلمات السوء لحلاوة على السنتهم يرتشفونها كما يرتشفون الماء البارد على ظمأ، في يوم قائظ، ولا غرابة فالكلمة في حساب المبطلين، واصحاب النفوس المريضة، والعقول الفارغة شيء رخيص لا وزن له، ولا ثمن للقليل او الكثير منه. فيا لله العجب اذا كانت تلك اخلاقيات بعض كتاب الانترنت، فما الذي استمسكوا به من اخلاقيات الاسلام؟ فلقد كشفت تلك النصوص السابقة المستور من امرهم، وفضحت المتوقع من خزيهم، ان من هذا فعله او بعض فعله بينه وبين اخلاقيات الاسلام بون شاسع، ومقدار من المسافة واسع، وهذا الخلل انما جاء من ضعف الايمان، وقلة التقوى، بل هو ايمان مشوب بعلل وآفات. ألا ما اخس الانسان حين يتعرى من مشاعر الاخوة الاسلامية، بل ومن الصفات الانسانية. وختاماً: ان الموقف الحكيم الذي ينبغي بل يجب ان يقفه الناجحون ازاء هذه الفئة هو: ألا يشغلوا انفسهم بها، ففي ذلك تعويق لهم، وتفويت لخير كثير كان يمكن ان يحصلوا عليه بهذا الجهد الذي يبذلونه في شغل انفسهم بها، وخير من هذا او اكثر عائدة على الناجحين هو ان ينظروا الى انفسهم، وان يقيموها على أمر الله، وامر رسوله صلى الله عليه وسلم، فذلك هو الذي يحصل لهم الصبر والتقوى، وهي القوة التي لا تغلب أبداً بأمر الله جل وعلا، من ظفر بهما فقد ظفر بنصر الله وتأييده. يقول الحق جل وعلا: {انه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} ويقول الحق جل وعلا: {وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} أما هؤلاء الكائدون فأمرهم الى الله: {إن الله بما يعملون محيط}. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ٭وكيل كلية الدعوة والإعلام لدورات المبتعثين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية