دخل أشعب بيته وهو ينادي!!، يتغنى فرحاً، ويقفز مرحاً، فاستيقظت زوجته من قيلولتها، وأقبلت تسعى إليه وتقول ما الأمر؟! قال إنه شيء عظيم، شرف لا يدانيه شرف.. انظري يا زوجتي العزيزة، وأخرج من تحت إبطه أنبوباً ضخماً وقال: هذا..!! قالت وما هذا؟ قال: الشرف، الرفعة، التاريخ..!! فازدادت حيرة واستعجلته لاستجلاء الأمر.. فقال لا تستعجلي فهذا الذي أحمله يحتاج إلى هدوء وتؤدة.. إنه المجد والفخار.. وبعد إلحاح منها أخرج الأنبوب، وفتح غطاءه برفق.. ثم أخرج منه ورقة كرتونية مطوية فقفزت صارخة، وهي تحسب أن الورقة صك منحة، أو وثيقة تملك أو شيء من ذلك، وقالت في لهفة: أرنيها، أرنيها.. فلما تمعنت فيها ورأت عليها كثيراً من الزركشات والألوان استغربت وقالت ما هذا؟.. قال: شهادة..!! قالت: شهادة ماذا..؟ قال: لقد أُحلت إلى التقاعد وسلموا لي هذه الشهادة، وهي شهادة أعتز بها مدى الدهر.. إنها شهادة تزكية، وثناء ومعها وسام وشارة ألبسها في المناسبات الرسمية.. فصاحت ألهذا أيقظتني يا لكع - أي يا أحمق - غضب الله عليك يا وجه النحس أيها المعدم البائس ومتى كانت هذه الشهادات والأوسمة تسمن أو تغني من جوع..؟! إنني مستعدة أن أعطيك من الأوراق ما تنوء به كتفك.. أتدري أين أفضل مكان لورقك هذا؟! إنه بطون الأغنام.. الشرف الحقيقي أيها المتعوس هو المال.. لو كنت ذكياً حاذقاً وفطناً لاستغليت منصبك الذي قضيت فيه جل عمرك، فنهبت ونهشت وهبشت كما ينهش غيرك، لو فعلت ذلك لكنت رجلاً نافعاً لك ولأهلك وذويك، لكنت بنيت لنا قصراً وسافرت بنا إلى بقاع الدنيا، لكنت في نظر الكثير من الناس رجلاً فاضلاً وكاملاً من العيوب، بل فوق ذلك كنت إنساناً نادراً ومبدعاً أي لأصبحت شاعراً وكاتباً ورساماً وربما ملحناً، أيضاً..! بل لحُسبت وطنياً مخلصاً كهؤلاء الذين نسمع عنهم كل يوم.. لكنك كنت جباناً تدور كما تدور العنز في رباطها، وقد ملأك الذعر والخوف ولم تفعل كما فعل غيرك من النهابين الأشاوس، فما الذي كان سيضرك لو فعلت..؟! إنهم لن يقتلوك ولن يجدعوا أنفك، وإذا غلبت الروم فإنهم سيقيلونك، أو يفصلونك من عملك.. حينها تكون قد أصبحت من عملاء البنوك وأصحاب الأسهم والعقار والشركات الكبار.. نعم لو كنت نهاباً ثرياً «يا لكع» لكان وجهك براقاً جميلاً مشرقاً دائم الابتسامة وليس عبوساً قمطريراً.. ثم جرته من أذنه وقالت انظر إلى وجهك السبخ الكالح أيها التقي النقي الأمين يا صاحب الأوسمة والنياشين ..!! قال في ذلة وانكسار: صحيح - يا زوجتي العزيزة - إن وجهي كالح وصوتي أبح وإن حالتي رثة لا تسر الصديق.. ولكن ضميري - يا عزيزتي - مشرق مضيء، لا شيء يخفيه أو يطفيه.. ضميري نقي كقطعة الثلج وصاف كقطرة الندى، ألا يكفي أنني أنام قرير العين، فارغ القلب من الهم.. ألا يكفي أنني لم أطعمكم حراماً، ولم أُدخل في بطونكم ناراً؟! صكت وجهها وصاحت: كفانا هراءً «ضمير نقي، وقلب نقي» هذا كلام فارغ لا يملأ بطناً، ولا يورث نفعاً.. انظر إلى بيتنا هل فيه حبوب ضمير، أو خبز ضمير.. هل فيه أكياس ضمير أو ذهب ضمير.. يا رجل الضمير مات وأعطاك عمره من سنين وتجده اليوم مع أهل القبور في قبورهم، ونحن نعيش بين الأحياء، نريد حياة سعيدة، لا حياة ضمائر وشهادات ونياشين فهذه خردة لا تساوي شيئاً في عالم الثراء والغنى.. راح يقلب نظره في الشهادة والنيشان ثم في وجه زوجته الكالح التعبان المرهق، وهو لا يدري ما يقول ولا يدري ما يصدق وضاق بنفسه وبكل شيء حوله، فقرر في الأخير أن يبكي فبكى.