من أقوى المؤثرات جدا في ثقافة المجتمع وتوجيه رأيه والتحكم في ذائقته وتحديد موقفه : ما يتلقاه ويسمعه ويتابعه ويتفاعل معه ويفهم معانيه ، والشعر الشعبي والشيلات ، والمواويل والزهيريات من أقوى هذه المؤثرات في وقتنا الحاضر . ويفترض أن لا نستغرب هذا إن كنا قد استغربناه أو تفاجأنا به ، وإن كان بالفعل أمرا طارئا لكنه الواقع لسعة جماهيريته وحضوره وتعدد قنواته ومنافذ إطلالته . فالشعر الشعبي أثره ليس في ذاته ولكن كونه نابعا من ثقافة المجتمع أيضا فهو إحدى إفرازاته وترجمة شعوره ، وهو يحمل في طياته فكرة ويخاطب وجدان المتلقي وعقله وينطلق من بيئته ويستخدم لهجته ويقترب من فهمه ويتلون تحت إرادته ، ونستطيع أن نقول عنه بأنه شعبي ، لأنه ينسب إلى الشعوب أنفسهم أي إلى غالبية مكونات المجتمع والناطقين به ، حتى أصبح الشعر الشعبي معيار ما يحمل المجتمع من فكر وثقافة ، فمضامينه تعد تعبيرا عن حالة وحياة المجتمع وما يدور فيه من فكرة ، فإن كان المجتمع يحمل فكراً ولساناً عامياً كانت عامية وإن كان يحمل فكرا ولساناً فصيحا صارت فصيحة وترجمت بلسان عربي فصيح ، وإن غلب عليه بنية معينة فهو كما هو مرآة المجتمع الذي يمثله لم يستعر من خارجه . والشعر الشعبي اليوم والأراجيز وشعر المناسبات والمواويل أوالزهيريات ، فن من الفنون الشعبية تولدت عنهم لغرض واحد فقط هو التعبير عن معان تختلج في صدورهم لها منفذ واحد هو هذا اللون سواء أعجب به أحد أو لم يعجب به ، إنه لون من ألوان ترجمة الشعور . أما الموالات والزهيريات فهي كلمات وعبارات موزونة أقرب ما تكون إلى الشعر الشعبي ولكنها ليست كذلك ، شأنها شأن الموروث من الأشعار الشعبية ، أو الأهازيج ، وما يشابهها مما له وزن يتبعه ، وهي من الفنون التي يفضلها سكان المناطق الساحلية البحرية الخليجية ، ولها ارتباط وثيق بالعمل البحري ، ذات ارتباط بالسفينة والبحر والرحلات البحرية والتجارية ، ولا تحمل الطابع الرعوي الصحراوي الداخلي لدى البادية والرعاة الرحل في الغالب ، فلونها ينفرد عن أشعار البادية ويستقل عنها ، ولا يمتزج بها بأي وجه من الوجوه وإن وجد نماذج من ذلك . ومسماها قد يوحي من حيث الدلالة بمسمى نشأت منه فهي نسبة إلى الزهيري ، ولا بد أن يكون شخص بدأها ونسبت له ، أما قدمها فإلى عصور ليست قريبة كالعصر العباسي مثلا ، ولا يجعلنا نعمل على تتبعها إذا لا حاجة للوقوف على نشأتها وقد وصلت بكيفية تعلق بها مريدوها وتابعوا تجديدها وهو المهم ، وبالتالي ليس الموضوع توثيقاً للون من الألوان الشعبية التراثية بقدر ما يكون إيراد مشاركة في هذا اللون المحبب عند سكان السواحل وبالذات الخليج وجنوب العراق وأثرها واضح في ثقافتهم وتوجيههم . وعلى العموم ساهمت مع الشعر الشعبي في نشر ثقافة اجتماعية منطلقة من المجتمع وعاداته وتقاليده ومبادئه بحيث تؤكد على الفضائل وتحرص على نشرها والتحذير من كل ما من شأنه إثارة الانتقاد أو نشر النقص والعيوب في المجتمع ، وحاربت معاني هذه الأشعار كل رذيلة وعززت من جوانب مكارم الأخلاق من حماية للجار والمحافظة على الصداقة والأخوة ، وتقدير الآخرين وفتحت طريق المراجل وما يرفع من قدر الفرد في مجتمعه وما يضيف له مدحاً ويبعد عنه الذم . وهذه كلها مما يجعل للشعر الشعبي وكذلك الموالات والزهيريات وغيرها مما يندرج ضمنها ذات تأثير قوي في توجيه المجتمع وتكوين ثقافة تستطيع تحريكه ناحية الفضيلة وتثبيتها والدفاع عنها وحماية المجتمع من أي أثر سلبي يمكن أن يؤثر عليه ، وبالتالي فهي تمسك بزمام القيادة التي تستطيع تسيير التوجه العام والرأي العام في المجتمع وتغيير وتحديد ذائقته والتحكم فيها . فبيت شعر شعبي يتلقاه المجتمع اليوم بلهجته وفهمه يستطيع التأثير فيه وتغيير فكرة معينة عنده أو تثبيتها سلبا أو إيجاباً. و نورد فيما يلي نماذج شعرية وبعض الزهيريات كالتالي : يقول الشاعر : محمد الحبابي في شعر النظم شعبياً: العز مطلب والمراجل توافيق والهون باب مالنا فيه مدخال مالي على بعض المواضيع تعليق واللي تشوف العين مايشرح البال أصد عن ما يفعلون المخاليق لكن ما تخفى على الله مثقال وان شفت بيبان السعادة مغاليق الصبر مفتاحٍ على كل الاقفال حتى قال الجود مايبغى دعايه وتسويق الجود بالأفعال ما هو بالأقوال الكنز ماهوب (الذهب بالصناديق) الكنز (معرفة الرجاجيل الأبطال) ففي القصيدة مضامين توجيهية غير مباشرة وهي مفهومة ومعلومة لدى المتلقي ، وبالتالي فهي ذات أثر كبير في التغيير إلى الأحسن أما الزهيريات فتأخذ الاتجاه ذاته وبشكل مقارب ، وهذه نماذج منها ومن أشهر أصحابها النوخذة عيسى القطامي من شعراء نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ، ومنهم أيضا عبد الله الفرج ، وغيرهما . زهيرية : عالجت نفسي على العادات ما طاعت أمرار هددتها بالحبس ما طاعت سايلتها بالرضا والله ما طاعت النفس هذي بما عودتها تعتاد إطمع بها للفضيلة علَّها تعتاد وإحذر تخدعك على الخسة ترى تعتاد أوصيك تصعد بها للعز إن طاعت ومنها أيضا : أصل الشقا بالهوى مبداه من شبكه هيض غرامي نصب لي فخ من شبكه أخطا ولا صابني يا ناس في شبكه ظليت مبهوت حايرٍ أنتظر سردال فتشت ما فادني قلوه مع سردال بحر الهوى تهت به ما فادني سردال إلا مهاتين يتخطن على شبكه السردال هو البحار القائد يقود مجموعة سفن ليدلها على مكان الغوص أو الرحلة ، ويقصد بانتظاره سردال كونه ينتظر دليلا يدله . ومنها أيضا : إن رمت للهند رايح للهوى ترتاح جنه هل كراجي من العرب ترتاح إبعد نزولك ولا تخالط همج ترتاح أوصيك إعمل بما قدمت لك وكفى وأعلم ترى الشهم من فكر بنفسه وكفى إحذر تعدد عيوب الناس ما بك كفى كرر رواحك هوى بندر ترى ترتاح ومن الزهيريات المشهورة والتي لا تغيب عن محب لهذا اللون ما يلي : مالوم انا الدهر لو جرد سجاجينه والهم بهواك ماونت سجاجينه محمل غرامي شله وانحطت سجاجينه واصفيت محتار محدٍ نظر بي وعظ والنصح ما جاب قلب المتيم وعظ اصبحت ملجوم واصفق بكفي واعظ مثل الجمل لو طاح كثرت سجاجينه ومن الزهيريات أيضا : يا صقر مالك تقيدني بحبل الفضل مالي جسد يحمل المعروف لك والفضل لوأحملك فوق متني ما أقوم بالفضل ما هي بأول مره أنهاك ما تسمع أرجوك ضعف على ضعفي ولا تسمع الله حسيبك كفى ما صابني واسمع الحر يضجر لكثر المدح يا أهل الفضل وشاعرها في هذا الكلام بقصد صقر الشبيب وكأنما يعدد فضله بلغة التقدير والعتاب . . والزهيريات ميزتها في ثلاثة جوانب ذات صلة بقبولها ونجاحها ، بغض النظر عن تصنيفها ضمن الشعر واهتمام الشعراء من عدمه ، لكنها نظما جميلا بلا شك ، فهي لا يجيدها سوى شاعر في الأصل. هذه الجوانب الثلاثة هي : الأول : الوزن أو الإيقاع المتتابع وفق منهجية محددة اختارها قائلها ، والصوت مؤثر فيها جدا . والثاني : كونها تحمل فكرة ومضمونا ومعنى يمكن متابعته فهي تتعدى كونها طربا أو لحنا يتغنى به فليست متعة وقت فقط . والثالث : التركيز على كلمة واحدة في نهاية كل شطر تأتي في كل مرة بمعنى مختلف رغم وحدة الكلمة عند السامع إلا أن السياق يحدد معاني متنوعة كلما تكررت وبالتالي فإن التورية والجناس هي صلب بناء الزهيريات ومن لم يدرك التورية والجناس يصعب عليه إيجادها . . ويبرع أحدهم على الآخر من حيث طول الموال أو ما نسميها (الزهيرية)وكذلك طول النفس الثقافي أعني الحصيلة اللغوية وتعدد المفردات . وإذا كان الشعر الشعبي تميز بما يسمى ب ( الديونة ) أوما يسمى ب (الشيلات ) التي اشتهرت مؤخرا ، مع وجودها سابقاً بشكل أقل وبإطلالة نادرة ، فالزهيريات لا يستعذبها مريدوها وعشاقها إلا على شكل شيلات عالية الصوت تملأ المكان اهتماما بمتابعة ما يريد قائلها من معاني يتناولها في كلماتها المتكررة ظاهرياً لكنها غير ذلك في معانيها وهذا سر تعلق بعض رواد البحر بها تقطع أوقاتهم في انشغال معها يرددها النهام أو منشدها حتى ولو لم يكن الشاعر أو القائل لها ويطرب لها كل من على السفينة من نوخذه وسيوب وتبابه وجلاسة والطباخين وغواصة وغيرهم ممن يرافقهم أو يخدم معهم . ومن الزهيريات أيضا : دمعى تحدر على وجناي همالي واشوف دهري يا بو عثمان همالي يحق لي لو اسكن الوديان همالي وارابع الوحش واصير مثلهم وحشي لاخذ على الراس من رمل الثرى واحشي من عقب ذيك المعزه صرت انا وحشي واصبحت مفجوع هم اهلي وهم مالي فيلاحظ ثلاثة أشطر بنهاية واحدة وثلاثة أخرى بنهايات واحدة وقفلة في السابع كما الشطر الأول . وتوزن الزهيريات والمواويل على أربعة أو خمسة أوسبعة أشطر ، يبدأ الشطر الأول بكلمات التورية ثلاثة وأخرى مشابهة لها بكلمة أخرى وتقفل الأشطر في الأخير بمثل الشطر الأول . وقد تصعب الكلمات كما ورد عند عبد الله الفرج حيث تقيد بحرف واحد مثل: الشين شمس المحاسن والمحاش امحاش شاف المناصل مناصل والمحاش امحاش شد الذي زال عنك والمحاش امحاش شوب الكدر لا عدم من لا يسوم الرشا شفّى مرامي وداي دواي ذاك الرّشا شمس الحسن حاش حبّك للمحاش الرشا شرِّف عسى تجد من حظّ المحاش امحاش