تشهد المملكة تحولات كبيرة وقفزات تنموية وإصلاحات، شملت العديد من القطاعات التي بدأت تتنفس الصعداء بإحداث التغيرات الإيجابية في مؤسساتها وقطاعاتها الحكومية، وعلى الرغم من أن المملكة تتبوأ تطوراً ملموساً، وصعوداً بارزاً على مستويات عديدة، إلاّ أنه من الملاحظ أن التعليم الذي تتشكل به قوى الأمم، وتتقدم الأوطان، وترتقي وتنجح، مازال دون المستوى المأمول منه، حيث إن هناك تحديثات بسيطة على مستوى التعليم تكاد لا تتجاوز المناهج التعليمية التي لم تثبت جدواها كثيراً، وربما بعض الأفكار البسيطة التي لم تلامس جوهر التعليم لدينا، وهو ما أدى إلى عدم مناسبة ذلك للمعلم، على اعتبار أنه يحتاج إلى دورات في المقررات الجديدة، حتى يوصل المعلومة بشكلها الصحيح إلى الطالب. إن تقويم جودة مخرجات التعليم، وكذلك تقييم مستوى ما يمكن أن يقدمه لأبناء هذا الوطن مازال غير واضح، بل وغير قادر أن ينتج مواطنا متعلما بشكله الحقيقي ومنجزا مستوعبا للقفزات التنموية التي تسابق المملكة لتصل إليها، وهنا يبرز أكثر من سؤال: هل إنشاء هيئة مستقلة لتقويم التعليم العام وتنظيم التعليم الأهلي كافية للتغيير وليس التطوير فقط؟، ومن يقيّم هنا نجاح العملية التعليمية؟، وهل الهيئة بحاجة إلى إعادة النظر في البنية التحتية للتعليم وجلب خبراء محكمين دوليين، ليبحثوا في مستوى التعليم لدينا، وخططه ووسائله وأهدافه، ثم إعادة تشكيله ليقدم مشروعا حقيقيا للمتعلمين؟، أم سيكون التقويم بخبرات محلية قد يكون بعضها سبب التراجع الكبير للتعليم؟. ثلاثة أسباب وأكد "أ.د.سعد بردي الزهراني" -أستاذ الإدارة والتخطيط التربوي بجامعة أم القرى- على أن إشكالية إصلاح التعليم تعود إلى ثلاثة أسباب جوهرية تعبر في مجملها عن المأزق الذي تمر به جهود هذا الإصلاح، مضيفاً أن السبب الأول: يتمثل في عدم اعتراف القائمين على نظام التعليم العام بأن هذا النظام في مأزق كبير، وأنه في حاجة ماسة إلى تغيير جوهري وليس مجرد تطوير كما يدعون، ذاكراً أن هناك بونا شاسعا بين التطوير والتغيير لا يخفى على المتخصصين، ذلك أن التطوير يكون مناسباً لأي نظام تعليمي قائم على ركائز متينة وسليمة وصلبة البنيان، ولا يعاني من أي اختلالات جوهرية، ومع الأسف هذا لا ينطبق على نظامنا التعليمي، موضحاً أن ما يحتاجه هذا النظام هو التغيير الجذري الذي يؤسس لبناء جديد تتوفر له كل مقومات النجاح والقابلية للنمو والتطور والتفوق، تغيير جذري ينطلق من رؤية طموحة وواضحة ويطال كل مكونات النظام من مدخلات وعمليات ومخرجات وتفاعل متبادل مع بيئته الخارجية، مشيراً إلى أنه وبدون أن نتحول من مفهوم التطوير إلى مفهوم التغيير فإن جهود الاصلاح ستبقى تراوح مكانها. أ.د.سعد الزهراني خطة تغيير وأوضح "د.الزهراني" أن السبب الثاني لإشكالية التعليم فيرجعها إلى المنظور والأسلوب والمنطلقات التي تحكمت وتتحكم في مسيرة جهود إصلاح التعليم، حيث يلاحظ غياب العمل المؤسسي المخطط والمستمر الذي لا يتغير أو يتوقف بتغير القيادات العليا في التعليم، حيث تحكمت وجهات النظر الفردية أو الشخصية في مساره، مبيناً أن هناك اعتقاداً بأن من أسهم في وصول هذا النظام إلى هذا المستوى المتدني قادرون على إصلاحه لوحدهم بدلاً من الإفادة من الخبرات العالمية التي سبقتنا في هذا المضمار، ذاكراً أن السبب الثالث يتعلق بكون جهود الاصلاح القائمة لا تملك خطة تغيير مكتوبة ومنطلقة من نظريات ومبادئ وأسس واستراتيجيات علم التغيير المخطط للمنظمات، فوجود مثل هذا النوع من الخطط لا يترك أي شيء للمفاجآت والاجتهادات والخطوات غير المحسوبة، بل يحدد سلفاً الإجابة على عدد كبير من الأسئلة من ضمنها: ما نوع التغيير المطلوب؟، وما مبررات العمل به؟، وكيف نعمل ذلك؟، وكذلك ما هي مقومات النجاح المطلوب توفيرها؟، وما هي أولويات وترتيب خطوات التنفيذ؟ وما هي العوائق المحتملة للتنفيذ؟، وكيف يمكن التغلب عليها أو تذليلها؟، إضافةً إلى أسئلة: هل هناك قوى محتملة لمقومة التغيير؟، وما هي الاستراتيجيات المناسبة للتعامل معها والتقليل من مقاومتها؟، وما تقديرنا للقوى المناصرة للتغيير؟، وكيف يمكن تعظيمها؟، إلى جانب بعض الأسئلة مثل: ما تقديرنا للقناعة بأهمية التغيير؟، وكيف يمكن أن نرفع من درجة هذه القناعة؟، وما نوع التدريب المطلوب على التطبيق السليم للتغيير؟، ومتى يجب أن يتم هذا التدريب؟، وما الآثار السلبية الممكن حدوثها أثناء وبعد تطبيق التغيير وكيف يمكن تلافيها؟، مشيراً إلى أن إصلاح النظام التعليمي عملية تغيير شاملة في غاية التعقيد، وذلك بسبب تعدد مكونات هذا النظام وتداخلها وتشابكها وتأثيرها المتبادل في بعضها البعض، وكذلك بسبب التأثيرات التي يتعرض لها هذا النظام من محيطة الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي، ذاكراً أنه لا يمكن ضمان نجاح هذا الإصلاح دون أن يتم تبني منهجية التغيير المخطط. النجاح يتوقف على استقلالها إدارياً ومالياً عن وزارة التربية والاستعانة ب«خبرات عالمية» للتحكيم هيئة وطنية وقال "أ.د.الزهراني": إن تقويم وزارة التربية والتعليم للتعليم من خلال إنشاء هيئة مستقلة هو أحد واجباتها الروتينية المفترضة، على أن يكون الهدف هو الإفادة من النتائج في عملية التطوير، وأن تنطبق على عملية التقويم معايير الموضوعية والدقة، مضيفاً أنه لا مانع في تعاقد الوزارة مع جهات خارجية لمساعدتها في عملية التقويم، والتأكد من موضوعية ما تعمله، مع ضمان عدم تحيزه أو تحريف نتائجه، مبيناً أنه لا ضير في أن توكل الوزارة تقويم الوضع الراهن للتعليم بغرض تحديد مجالات الإصلاح والتغيير لجهة خارجية محايدة، مشدداً على أن تأسيس هيئة وطنية لتقويم مدارس التعليم العام والأهلي هو التأكد من تحقيقها الحد الأدنى من معايير الجودة، بشرط أن تتمتع هذه الهيئة بالاستقلال الإداري والمالي الكامل عن وزارة التربية، لكي تكون قراراتها موضوعية وأحكامها صادقة وغير مهيمن عليها من الوزارة، مستشهداً بآثار عدم وجود التخطيط الجيد المسبق في التعليم بما أحدثته المناهج المطورة من إشكاليات تواجه المعلم والطالب، وذلك دليل على صدق ما ذهب إليه من عدم وجود خطة تغيير علمية تقود جهود الاصلاح، وتحدد مراحل التنفيذ وأولوياته ومتطلبات نجاحه، ذاكراً أنه لو أن هناك خطة تغيير لما أمكن تطبيق المناهج المطورة قبل أن يتم استكمال تدريب جميع المعلمين على التطبيق، وما يحدث الآن ليس إلاّ نتيجة منطقية للعمل غير المخطط.