لقد منَّ الله سبحانه وتعالى على ابن آدم حين أودعه خصائص تميزه عن سائر المخلوقات، ومن هذه الخصائص (نعمة العقل) بأن خلق له عقلاً واعياً مستنيراً يمكن أن يعرف به ربه عن طريق الدلائل الموصلة لذلك، ولتنظيم شؤون حياته وتطويرها ليحقق حكمة كونه خليفة في الأرض في هدي من شرع خالقه. والعقل سمي بذلك أخذاً من (عقل الناقة) لأنه يمنع الإنسان من الإقدام على ما يستقبح من أفعال وأقوال كما يمنع العقل الناقة من الشرود إذا نفرت. بمعنى أن العقل يقوم بعملية استنباط واعية لضبط تصرفات الفرد وطرائق تفكيره وذلك كي يحقق النفع المرجو لدينه ودنياه بعيداً عن النزوات والانفعالات، لذلك قال عامر بن عبد قيس «إذا عقلك عقلك عمّا لا ينبغي فأنت عاقل» فالعقلانية من حيث هي إحدى طرائق التفكير ليست بالضرورة أن تكون انحرافاً فكرياً - كما يصوره أو يسيء فهمه البعض - كما انها ليست النهج الوحيد الصحيح الذي يجب أن تبنى عليه عملية الطرح الفكري بمعزل عن الشريعة كما يريده البعض الآخر، وإنما تكون العقلانية المطلوبة - من منظورنا الإسلامي - إيقاظ طاقة العقل لشحذ همة أدوات الاستقبال والتلقي لديه لكشف السنن والقوانين الكونية ومعرفة التوجيهات التربوية وربط ذلك بما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية والتعامل معها للانتفاع بها وفق تنسيق ذهني وتسلسل منطقي منظم. والأدلة من القرآن الكريم والسنّة على مخاطبة العقل البشري لتعليمه والرقي به وتوسيع مداركه كثيرة، قال تعالى في سورة الرعد: {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}. فالتدبر في آيات الله مطلب يتوجب على المؤمن فعله لأنه سبب من أسباب رسوخ العقيدة وثباتها ومدخل لعقل المسلم للرقي به وتطويعه على التأمل العقلي المنظم للوصول إلى استنتاجات علمية وإبداعية تكون عوناً للنهوض بالفرد وإبعاده عن التخلف في مجالات المعرفة والإنتاج سواءً كان صناعياً وتقنياً أو زراعياً. لذلك يقول الحسن البصري - رحمه الله - (تفكر ساعة خير من قيام ليلة). والرسول صلى الله عليه وسلم - في توجيه تربوي - يثني على أشح بن عبدقيس فيقول له: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة». فقد ارتقت هاتان الخصلتان بمن يتصف بهما إلى أعلى الدرجات ألا وهي محبة الله ورسوله، لكونهما لا تتحققان إلا لعقل راشد وهما في الوقت نفسه تمنحان العقل مزيداً من النظر والتأمل والروية وهذا يؤكد على أهمية دور التفكير العقلاني في حياة المسلم لما له من انعكاسات إيجابية على الفرد والأمة. ولو بسطنا منطق العقل - الذي يخاطبنا به ديننا وتراثنا الإنساني المديد - على واقعنا المعاش لرأينا صوراً من الإعاقات الحضارية التي هي نتاج تخلف ذهني لدى البعض تسبب نوعاً من العجز في التكيف مع المتغيرات العالمية عبر سيطرة التفكير السلبي على بعض العقول المنتسبة للإسلام والتي لم تستطع إعمال ملكة العقل في فهم الواقع الذي يحتاج للكثير من الروية وضبط النفس وهو ما قاد الحالة من عدم التوازن في فكر تلك العقول التي انكفأت على ذاتها ولم تستفد من القدرات الإبداعية التي تساعد الإنسان على تجاوز العقبات ومن ثم فوتت على نفسها الفرصة في تشكيل العقلية الناضجة التي تنتهج الطريق الصحيح مستعيضة عن ذلك بالغلو واحتضان الأفكار التي أضرت بها ورسمت صورة خاطئة عن الإسلام - عبر ممارسات تقوم به تلك الفئة - تُنسب إليه وهو منها براء. لقد كان تصور تلك الفئة مبنياً على إفهام ومعلومات مغلوطة في ظل غياب البصيرة الدينية اللازمة لفهم الدين والعمل من أجله والتي سار عليها أئمة وعلماء هذه البلاد مضعفة بذلك عقيدة الأمة ومهدرة طاقاتها الذهنية والمادية بانسياقها اللاعقلاني نحو تلك الأفكار والتصورات لذا صدق من قال «قنطار من علم يحتاج إلى عشرة قناطير من عقل». كما نجد في حاضرنا اليوم حالات أخرى من الانتقائية والإسراف في الانجذاب والتبني المفرط والأعمى لكثير من المفردات كالحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان من قبل البعض في غياب التأصيل الشرعي، والاجتماعي لهذه المفردات وكأننا نعيش في فراغ حضاري ليس له هوية أو ثوابت سواءً كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية مشغلين البلاد والمجتمع عن الكثير من المفردات اللازمة لمشروعنا الحضاري والتي إن عملنا على تبنيها وتعليمها للنشء منذ السنوات العمرية الأولى فإنها بإذن الله سيكون لها الدور الكبير في النهوض بدولتنا وابتعاد أبنائنا عن تبني الكثير من المفردات الداعية إلى التطرف بطرفيه العقدي والأخلاقي والتي تمثل أرضاً خصبة للمشاحنات الفكرية البعيدة عن الموضوعية والتي من تفاهتها يحجم المرء عن ذكرها نتيجة للتدهور السريع العقلي والمنطقي في كثير من الأطروحات، فالنقاش الذي يبدأ موضوعياً وواقعياً لا يلبث أن يميل من الحوار الهادئ والمستنير إلى تشنجات تنتهي بحالة تأزم في العلاقات وانهيار لواقعية العقل والمنطق متناسين في زحمة ذلك ديننا الذي يحثنا على استخدام العقل للنظر بالحكمة والتروي في إصدار الأحكام والتبصر في نقاشنا وفي الكثير من أمورنا، لقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}. ومن هنا ندرك مدى الوهن في العلاقات والإهدار للطاقات والتخلف عن الركب وإضاعة الوقت والمال الذي نتعرض له نتيجة لذلك. لذا فنحن مطالبون بأن نعيد النظر في طرائق التفكير لدينا وفي أسلوب طرحنا لكثير من الأحداث والقضايا بدءاً بالأمور الشخصية وانتهاءً بما تمر بها بلادنا من تطورات كي ننهض ونعزز دورنا الرائد في نشر ثقافاتنا وحضارتنا القائمة على العدل والسلام وإثبات أن الرسالة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان عبر الرؤية الصحيحة التي تقرأ الواقع بعقلانية وتقبل باستقراء الأفكار مع الحضارات الأخرى في محاولة لسماع الرأي الآخر كما قال سبحانه وتعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن..} الآية. في كل ما من شأنه الرفع من شأن أمتنا عامة وبلادنا خاصة في صورة انتقائية لا تمس ثوابتنا الراسخة للوصول بمشروعنا الحضاري إلى بر الأمان تحقيقاً لقوله سبحانه {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً..} الآية. ولذا فإن هذا البناء الحضاري العظيم المنضوي في كيان (المملكة العربية السعودية) يجب ألا يتجاذبه طرفا نقيض ما بين عقلانية غير منضبطة أو ظاهرية لا تدرك معنى النصوص ومقاصد الشارع منها وفي الوقت نفسه فإن كياننا الوطني لا يتحمل ولا يحتمل إطلاقاً طرفي النقيض هذين فنحن مطالبون بالمحافظة عليه بعيداً عن هذا التجاذب غير المفيد إذا ما علمنا بأن هذا التضاد، وهذا الجدال الدائر ليس بين منهج يريد التحديث ومنهج لا يريده، أي أنه ليس صراع مناهج، وإنما صراع بين فئتين، أو فريقين قد لا يحمل كل منهما تنظيراً له، وأنه وإن بدا أن قائله يطلق مصطلحات ودلالات، إلا أن ذلك منه محاولة للظهور بمظهر صاحب الفكر المنهجي، ومع التسليم بأهمية هذا التجاذب وأنه دلالة على أن المجتمع يمر بمرحلة انتقالية صحيحة من خلال هذه الأطروحة إلا أن ذلك لا يمكن أن يحقق الهدف الأساس الذي نحتاجه في مشروعنا الحضاري ما لم نسلم بأن العقل ليس أصلاً للشرع ولا مساوياً له وإنما هو تبع له يستمد قوته وحجته منه. فهل من نظرة جديدة تصحح المسار وفق تفكير سليم تحت نهج رباني للاستمرار في مسيرتنا الحضارية في هذه الدولة المباركة (المملكة العربية السعودية) نظرة تؤصل لكثير من مفردات هذا العصر. كالإبداع، وحب العمل، واحترامه، والمنافسة الشريفة، والفردية الحميدة، والحرية، والديمقراطية وحقوق الإنسان ...إلخ. بعقلانية منضبطة في قالب شرعي معتبر تعمل على الوصول بمشروعنا النهضوي إلى بر الأمان.