النظام العلامي المستزرع في فضاء الفترينة، والساطي بطاقته السيميائية على الفن، هو بالتحديد ما يجعل من الفترينة مكاناً للاستيهام الفردي والجماعي، حيث تتحول إلى فضاء مكاني درامي تفصح بنيته عن الحالات الشعورية والحركية التي تعيشها وتقوم بها تلك الشخصية الدرامية بوضعاتها المختلفة، كما تعبر مختلف البنى الشكلية للمرأة المؤمثلة عن وجودها، بسيل من الصور والاستعارات، وعبر التقاطُبات التي يحددها جسدها بالنسبة للمحاور الهندسية، وكأنها غرفة نوم حقيقية يراد لها أن تعمل بمثابة المختبر الكفيل بقياس مزاج الناس ومدى استعدادهم لمحاكاة فاصل من الحياة، على اعتبار أن (المانيكانات) وحدات ثقافية وجمالية منمذجة ترتبط بالخيار الاجتماعي والاستيهامات الأنثوية والذكورية على حد سواء. وبالتأكيد تعبر تلك الأجساد المشاعة، الفاقدة لخصوصيتها عن مواقف مسكوكة داخل نسق جمالي، ينزاح فيه الجسد عن مواضعته الاستعمالية، بعد تحوّله إلى حزمة من الرموز والإشارات مرسومة معالمها بشروط الصنعة الفنية التي يتم بموجبها كصورة أو نسخة تغليب حالة التمثيل على الواقع، والمظهر على الجوهر، إذ لا واقع خارج ما تمليه وسائل الإعلام، حيث الواقع الفائق Hyper-real على اعتبار أن (الوهم هو المقدس) حسب جي ديبور في مجتمع الاستعراض (أما ما هو مدنّس فهو الحقيقة) حيث يتحول (العالم الواقعي إلى صور بسيطة، وتصبح الصور البسيطة كائنات واقعية، وحوافز فعالة لسلوك في حالة تنويم) وهو ما يبدو واضحاً وصريحاً في التنويع على حضور موضوعات الطفولة، إلى جانب معاني الرجولة المتعددة من خلال مجسمات وصور، أو ملبوسات معلّقة على خلفيات تصويرية هائلة تصعّد من أثر الفترينة الدرامي. ولمزيد من الإقناع (وإحداث تأثير سار في الذهن) كما يفهم رينولدز هدفية الفن، تم ابتكار أساليب جمالية وفكرية متنوعة لمضاعفة قوة التشابه مع الواقع، لتحقيق مشهدية متعددة الأبعاد يمكن من خلالها تجاوز محدودية المنظور التي كانت تحكم المعروضات في الفترينة، كما يلاحظ ذلك في الخدع التشخيصية المستمدة من الفن البصري Optical Art المؤسس جمالياً على إيهام المتفرج بالحركة أمام الأشكال المتداخلة والمتغيرة باختلاف زاوية النظر إليها، التي تجعل من صور الرياضيين - مثلاً - تبدو حقيقية، وبحجم الإنسان الطبيعي خلف زجاج الفترينة، فيما يبدو شكلاً مقصوداً من أشكال التواصل التي توحي للمتفرج بانوجاده كجزء لا يتجزأ من المشهد، خصوصاً أن تلك الرموز الرياضية تعرض داخل فترينات ذات بنية درامية مفعمة بمكوّنات حركية وشعورية، تماماً كما تبدو محلات الزينة، وأدوات التجميل المشتقة مستحضراتها من الطبيعة أشبه من تكون بيوتوبية المرابع الخضراء والبساتين، لدرجة تبدو أمام المتسوق وكأنها حقيقة غير قابلة للدحض، اتكاء على تقنيات عالية الكفاءة بمقدورها استبطان الأشكال والمعاني الثقافية، حيث يعمل (النسق التقني) كوسيط بين الفن والطبيعة، ويتلازم مع مستوجبات (الفرجة). وذلك هو فن الاستحواذ على الطبيعة ومحاكاتها، أي ترويض مظاهرها المادية وتحويلها إلى سلع استخدامية ذات قيمة أو طابع فني. ومن ذات المنطلق التصعيدي للفترينة، بما هي حامل فني قابل للتطوير، تم التعامل مع محلات المأكولات، من خلال حرفية تصويرية تبالغ في دلق مزيد من الضوء على السطح التصويري للمعروضات، للاقتراب من واقعيتها، وإثارة الحس الشهوي عند المتلقي، فيما يشبه الأداء الانطباعي المؤكد على حدوث المشهد وراهنيته، لا على انقضائه واستدعائه من خلال اللوحة، فهكذا تتم محاكاة التجربة الإنسانية بأبعادها المتعددة، وتوطين المتسوّق في مدار يسميه "باشلار" من الوجهة الظاهراتية (دراما الصور) وكأن الصورة قد صارت هي البديل أو الوسيط بين الإنسان والواقع، التي تحاكي بأمانة أصوات وإيقاعات ومشهديات التجربة اليومية، بعد تخليص السرد البصري الخام من اعتياداته والاكتفاء بجوهر الشيء. الحذاء الفلاحي الذي رسمه فنسنت فان غوغ اُعتبر عملاً فنياً، لا لأنه نسخة حرفية من الواقع، حسب قراءة مارتن هايدغر ولكن لأنه (استطاع التعبير عن جوهره كشيء). وفي فضاء الفترينة العصرية، يموضع الحذاء الرياضي مثلاً على خلفية وعرة، كدلالة على المتانة، أو بتجريد الكتروني وامض كقرين للحظات الفوز والبهجة، خصوصاً أنه يُقدم على خلفية تحقيبية بتواريخ المسابقات الرياضية الكبرى، وأحياناً يتم استعراضه إلى جانب صندوق هائل من علب البلاستك المعاد تدويرها أو مصبوباً في قالب له شكل الحذاء، للإيحاء بصداقة هذا المنتج الرياضي للبيئة، وللتأكيد على ما بات يعرف في التوجهات الفنية بالإنسان الأيكولوجي، بمعنى أن المعاني المتولدة من طريقة العرض، لا تستطيع مفارقة شيئية الحذاء ومرجعيته الواقعية، وفي الآن نفسه تتم إضافة المجاز والرمز في إطار التصوير. وفي مجال الرؤية تلك يتم توصيفه كعمل فني، حسب "هايدجر" حيث تتعاضد فكرة الخلق وصناعة الأداة داخل عملية الإنتاج. وبناء على الفحوى، يمكن - برأيه - التفريق بين خلق الأعمال الفنية وبين صناعة الأدوات، أو ذلك هو ما يسميه (التصميم الشعري للحقيقة). الحذاء المعروض بتنويعات مختلفة وراء الفترينة، وإن بدا، حسب التحليل الهايدجري (بمثابة إنتاج صناعي، إنما هو صناعة من نوع آخر. فهذا الفعل يحدده جوهر الخلق ويدعمه ويبقى محفوظا فيه). وهذا هو الفرق بين الإنتاج بصفته خلقاً وبين الإنتاج عن طريق الصناعة، أو ذلك ما يسميه (حكمة تحديد جوهر الخلق من جانبه الصناعي) كما يتم عرضه من وراء الفترينة باعتبارها مصفاة بصرية وشعورية ومفهومية أيضاً. وهو أمر يؤكد عليه هويسمان بالتحذير من خواء الصناعة، وخلوها من اللمسة الفنية، فهي برأيه (ألدّ عدوة للفن لسببين: أولهما تقبيح المناظر الطبيعية. وثانيهما: تخريبها الأسلوبية، بأن تستبدل بها العمل الصناعي النمطي). الجوهري، حسب تصور ستونز للأصالة الفنية (لفظ يدل على الصفات والخصائص التي ينبغي ان يتصف بها شيء إذا كان ينتمي إلى فئة أو نوع معين) وهو أمر ينبغي تعيينه قبل محاكاته. كما يشدد عليه هايدجر في مقاربته لكُنه الجوهر، فبرأيه (كلما كان العمل أكثر انفراداً، مصبوباً في الشكل بصورة ثابتة، وقائماً في ذاته، وكلما بدا وكأنه يحل كل علاقاته بالإنسان بصورة أكثر نقاء، كانت الدفعة، وهي كينونة وجود العمل بهذه الصفة، نحو المفتوح أبسط، وكان ما لا يدرك قد دفع الى أعلى بصورة أكثر أهمية وتم قلب ما يمكن إدراكه، وكان قد بدا هو الظاهر الآن... ففي العمل يتم حدوث الحقيقة في العمل الفني بناء على الطريقة التي يعمل بها العمل الفني عمله ... وجوهر الفن هو وضع الحقيقة في العمل على أن هذا التحديد لا يخلو من غموض عن قصد). إذاً، لا ينبغي للفن أن (يكون ترديداً حرفياً للمجرى المألوف للتجربة) حسب التصور الأرسطي. وهذا هو ما يحاوله خطاب الفترينة الجمالي، باعتماد الوظيفة السيميائية مثلاً، فعوضاً عن استعراض ربطات العنق الزاهية على ملابس رجالية أنيقة، يتم تعليقها على سياج يشبه سياج الحديقة، في مقاصد استعارية، وهكذا يتم طرح الحقائب على أوراق خريفية متساقطة للإيحاء بالخفة، كمعادل لما يعرف بانعدام الجاذبية Zero Gravity. كما يتم عرض الملابس الشتوية إلى جانب كومة من الحطب المرسومة بدقة توحي بالفء، من خلال مركب صوري يحيل إلى مرجعيات حسية ذات نزعة اعتقادية، حيث النار هي المعادل للذة وليس للدفء وحسب، وكما يتبين ايضاً من المركب الفني الذي يعادل كرات الصوف بخروف تشتق منه خامة الملبوس. أو كما يتم التعبير عن (الخريف) بتجريدات إشارية خاطفة تتماثل مع الملابس اللائقة بخفة هذا الفصل، فكل نظريات المحاكاة في نهاية المطاف (نظريات معرفية، أي أنها تدعي أن الفن يقدم معرفة) أو هكذا تبدو من وجهة نظر ستونز حتى وإن كانت تعلن عن موقف جمالي معني بإظهار الإرادي للحياة اليومية، كما تتقنه الفترينة بتجذير فن الاستهلاك الكمالي، وتقديم صورة تعكس الشكل والطريقة التي يتصورها مجتمع ما عن نفسه. التشكيل البصري لفكرة ما، أو إنجاز الصورة، بتحليل غاستون باشلار الظاهراتي (يتضمن قرارات يصدرها العقل مع الأخذ في الاعتبار متطلبات الرؤية) الأمر الذي يعني أن الفترينة تخضع هي الأخرى لتطور العين البشرية وفن المنظور، فإذا كان التصوير مكمناً ساطياً من مكامن المحاكاة، فإن الفنان الحديث عرضة لمحاكاة الواقع، وإن كان يمتلك حق الافتراق مع سوقية المحاكاة البسيطة، ليصبح كل ما تحتضنه الفترينة مشتق من الواقع ومتصارع مع مظاهره في الآن نفسه بصيغة جمالية تفاعلية وخلاقة، فهي - أي الفترينة - كمختبر فني أشبه ما يكون بالخدعة الحسية، بقدر ما تحاكي (الواقع/السوق) تعاند النقل الحرفي لذلك التجلي الواقعي، كما يجهد خطابها الجمالي للانحياز عن المعاني الساذجة، لتبقي على المغزى الفني، إذ لا تحيل إلى قيمة بقدر ما تعزز أسلوب أو رؤية حياتية، تتغيّا إشعار المتلقي بتحضره ورهافة ذائقته وانوجاده في حيز إبداعي، أي تداول معنى، هو بمثابة صيغة من صيغ التطهيرية، حسب تصور "سعيد بنكراد" لفكرة الإشهار الجمالي وبناء المعنى (التي تمكن الذات من الانتشاء بنفسها عبر المزيد من الانغماس في الوهم. ويتم هذا التطهير عبر التسوق وفعل الشراء). حيث التأكيد على قاعدة في التواصل مع المستهلك (ترفض أن يقدم المنتج حافياً وعارياً من أي سقف ثقافي يمنحه الدفء والأمان والألفة). هذا هو التحدي اليومي الذي تواجهه الفترينة لإغراء المتلقي بفن واعد بسعادة، هي مزيج من المتعة والمنفعة والمعرفة أيضاً، كما يتساءل شربل داغر عن مأزق الفن المتحفي الاقتنائي، أي عن الكيفية التي يكون بموجبها (الفن دلالة على الغابر، ودلالة على الحس الحي في آن!؟). وهو الحدث الجمالي الذي يمكن مراقبته من وراء الفترينة، من خلال فن بقدر ما هو معني بتجسيد الفكرة، غايته أيضاً الكشف عن المعنى واستظهاره في أشكال جاذبة. الأمر الذي يشي بتورطها في صراع لا يعتقها من مقولات تفيد بكون الفن تعبيراً عن (المثل) ومعانقة النموذج، ولا يحررها تماماً من شبهة التعبير الساذج عن (الطبيعة/الواقع) وإن كان خطابها المحدّث صار يبدي شيئاً من الازدراء للطابع المباشر والجاهز من الإحالات، انتصاراً للعلامة البصرية في أقصى دلالاتها، التي تضع المنتج بين الاستعمال والدلالة، حيث لا وجود لأي قاعدة عقلانية قارة للتفريق بين الفن الرفيع وما يقابله من الفن الشعبي، سوى الحياة ذاتها، مهما قيل عن دعاوى العمق والنخبوية، وهو المعنى الذي يؤكده جون كيج بمنتهى الوضوح، وفيما يشبه النبوءة بجانب من أهم مآلات الصنعة الإبداعية، فالفن برأيه (ما زال يفيق على مصيره الحقيقي: الحياة).