من العبارات الشعبية المتداولة قولهم في وصف الشخص بأنه «سمْح الخاطر»، وتُستخدم هذه العبارة بين الناس بمعنى تطييب النفس ومحاولة إرضاء الشخص حتى لايبقى في نفسه شيء سلبي. على أن شخصيات الناس تختلف من حيث القدرة على السماحة، لأن السماحة تتضمّن معنيين أساسيين، هما: الجود الذي يتضمن العطاء دون مقابل، والمرونة التي تسمح بالتفاوض والنقاش والتنازل والتقبّل. ومن أبرز المواقف التي تكشف عن هذه الصفة مايجري من معاملات في البيع والشراء بين الناس، فهناك أشخاص تجدهم على مستوى من المرونة والتعاون. ويملكون مهارة التفاوض وكسب الطرف الآخر، سواء أكان هذا الشخص تاجرًا أم زبونًا، ويصدق عليه الوصف النبوي بأنه: «سمح إذا باع، سمح إذا اشترى؛ سمح إذا قضى، سمح إذا اقتضى». وهناك أشخاص يتصفون بصعوبة التعامل لدرجة التصلّب في الموقف، وهذا الصنف في الغالب لاينجح في التجارة لأنه ببساطة لايملك القدرة على كسب الناس بحسن تعامله وتواصله. على أن السماحة في التعامل لاتعني أن يتنازل المرء عن حقوقه ويُضحي بالتزاماته، بل هي تواصل إيجابي لكسب الآخرين بالصدق والصراحة وليس بكثرة الكلام وتنميق العبارة. وقد يمر على المرء حالات يكون فيها غاضبًا ومتوترًا، وبكلمة طيبة صادقة تنمحي من نفسه كل الأكدار. والناس القادرون على السماحة هم من الشخصيات الحرّة التي تؤمن بامتدادية العالم وتغيّر الحياة مع تغير الزمن وتبدّل المعطيات. الشخص السمح يخلو ذهنه من المعلومات والمواقف السلبية السابقة ولايحتفظ في وعيه إلا بما يجد أنه فضل يستحق البقاء والإشادة، ويغفل عمّا تحويه ذاكرته من مواقف سلبية يجد أنها حصلت نتيجة ظروف خاصة في زمن ومكان وحالة وسياق له ملابسات معينة؛ ولهذا، فلابد أن تبقى تلك المواقف السلبية في إطارها السابق ولايصح نقلها إلى المستقبل كما كانت. ويتّسم الشخص السمح بأنه كريم لأنه يُعطي دون أن ينتظر المقابل الذي سيجنيه من عطائه، ويستبعد أن تجد هذا الشخص يمتنّ بفضل على أحد. فلو كان معلمًا أو مديرًا أو صاحب خير، لن يلجأ إلى تذكير الناس بأفضاله على طلابه ومن عملوا معه بأنه علّمهم وأرشدهم إلى أمر معين، لأنه يجد أنه كان يقوم بواجبه الذي تقاضى من أجله مقابلا ماليًا أو معنويًا، ولا داعي لاستحلاب هذا المقابل أكثر من مرة. ولو شكر الناس فضله، فإنه يفخر بمن شكره ويشعر بالطمأنينه بأنه قدّم عملا مفيدًا للآخرين. والشخص السمح لاتتعب في التعامل معه، لأنه مفاوض ناجح وقادر على المرونة وتقبل المواقف، ويمتلك قدرة عقلية تفتح أمامه مجموعة من الاختيارات المتاحة، ولن يكون أسيرًا لاختيار واحد أو لفكرة واحدة أو لموقف محدد. ومن هنا، نفهم معاناة الشخص السمح حينما يتعامل مع شخص متصلّب يُوصف باللهجة العامية بأنه "عكرمة"، أي شيء غير قابل للتغيير والتبديل، ويطلق هذا الاسم في العامية على الشجرة ذات الأغصان المتداخلة الملتوية على بعضها، وأي محاولة لتحريك الغصن فيها أو تعديله يعني كسره وتدميره. وقد عبّر الشاعر الشعبي عن هذا الموقف بقوله مخاطبًا رجلا عكرمة: يوم استعنتك من حلالي وعيّيتْ عجزت تسمح خاطري من حلالي ومن الواضح أن الشاعر كان يريد من هذا المخاطب تطييب خاطره من ماله دون أن يخسر أي شيء، ولكن هذا الشخص "عجز" عن القيام بهذه المهمّة، لأنه رجل غير مُتحرّر من معوقات نفسيّة وعقليّة تحول بينه وبين السماحة في التعامل. وفي الغالب لايعدم مثل هؤلاء الحجج التي تدعم مخاوفهم وتبقيهم على ماهم عليه، وقد وصف الشاعر تلك الحجج في القصيدة السابقة نفسها بقوله: سوالفك ما تنتعدّد، سماريتْ أركنْ على حلقي طرير السلالي ويشير بالسوالف إلى الحكي الذي ينسجه هذا المخاطب على شكل قصص كثيرة ولكنها كلها ليست سوى "سماريت"، أي بلاقيمة، وفي رواية أخرى لصدر هذا البيت: «حكيَك طوال ما تعدّت سماريت»، وتروى "سماريت" كذلك ب"سباريت"، التي تعني بالعامية التهاويل من الأحاديث الملفقة. والواقع، أننا دائمًا ما نقابل في حياتنا نماذج من نوع شخصية "العكرمة" هذا، فلا تستطيع التعامل معه بسهولة، ولايساعدك على تقديم الخير له ولا لغيره، لأن شخصيته مجبولة على التمحور حول ذاته للحفاظ على وجوده من خلال البقاء على ماهو عليه، ويجد أن أي تغيير أو أي فكرة غير مألوفة عنده تتضمّن - بالضرورة - تهديدًا له. ومن الطبيعي أن الشخص السمح الحر لايستطيع العيش في بيئة فيها شخصيات تعتقل حريته وتُهين كرامته وتجعله يظهر بنمط لايناسبه وقد لايطيقه، وهو ما فعله الشاعر في قوله: أقفيت يادار الخطأ عنك، وألويت مثل الخريش اللي مصيبه جفالي ويستحق الشخص السمح أن يُمجّد وأن يكون نبراسًا يخفف من وطأة الحياة، فرحم الله هذا المرء السمح.