قال لي الدكتور هارتموت فاندريش وكنا في طريقنا إلى مدينة هانوفر الألمانية ذات العراقة الصناعية والفنية: أن الأدب العربي لا يزال يعامل باستخفاف، فإلى جانب الأحكام المسبقة ضده، فأن شاعرية الرواية العربية التي تتعارض مع عادات وذائقة الألمان في اختياراتهم للنصوص هي من العوامل المؤثرة في الاستقبال غير الجيد لهذا الأدب. لم ينفتح هذا القارىء ولم يكن على استعداد لخوض قراءات مختلفة فلن ينجح حتى في تذوق أكثر الأعمال تميزا. أضاف قائلا: كذلك لا يوجد نقد أدبي رصين لسوق الكتاب العربي مما يجعل البحث عن أعمال أدبية عربية عملا بحثيا شاقا ومضنيا. من هذا المنطلق يبدو تعاون عدد من دور النشر والمترجمين الأوربيين في كل من سويسرا وألمانيا من أجل تبادل الخبرات لهو دليل سليم في ذات المجال وثمرة هذا التعاون في الدول الناطقة بالألمانية. هذا الألماني/ السويسري، المثقف والناقد والأكاديمي لمادة الفكر الاسلامي في جامعة زوريخ، هو المستشار الثقافي لدار لينوس السويسرية الكبيرة والتي قدمت ومنذ الثلاثين سنة الماضية غالبية الأسماء العربية في القصة والشعر والنثر العربي وكان هارتموت قدم ولوحده ما يقارب الاربعين كتابا في الترجمة والتعليق والأختيار والتنويه عنها في المنابر الإعلامية والثقافية، وهو أحد الحلقات الأساسية في مجمل الاختيارات التي تمت ترجمتها من العربية إلى الألمانية من الأدب العربي المعاصر. لقد ترجم سبعة روايات للروائي الليبي إبراهيم الكوني، وكان يخيل إليّ ونحن نتحاور في القطار، ان الكوني بالنسبة إليه هو الكاتب الأعز من بين الكاتبات والكتاب العرب. لم أسمع أو اقرأ من أي ناقد أو كاتب عربي نقدا منصفا وباهرا لكاتب عربي آخر كما سمعت من هارتموت عن أدب الكوني. فهو يضعه في مصاف الكتاب العالميين واصفا منظومة أعماله التي شقت لنفسها بهدوء وعبر سنوات من العمل الدؤوب والمثابرة لتشكيل ما يمكن تسميته أسطورة من داخل صحراء ليست افتراضية لكن بمقدور كاتب مثل الكوني أن يجعلها قوية كالحقيقة، حقيقة الإبداع ذاته. كنت أشعر وأنا أقرأ التبر، أن حبات الرمل الذهبية دخلت أنفي ومست جلدي وبدأت أتلمسها في ثيابي، وببضعة كلمات كانت الصحراء كأنها المثل الأعلى لضراوة الوجود الذي نفذ إليها الروائي بمهارة البحث/ والقص/ الذي كان يتكرر في جميع مؤلفاته وبتنويعات مغايرة، هو التكرار الوجودي ذاته، تكرار البحث والشقاء وإلى ما لانهاية. لم أكن أنوي الكتابة عن الكوني، وأنما الكتابة عن النساء والقراءات، عن القاعات التي كانت تمتلىء بهن في الست مدن الألمانية التي دعيت إليها قبل فترة. وهو حلقتي القادمة. عرجت على اسم الكوني كونه فاز بجائزة كبرى من أحدى المقاطعات السويسرية قبل ايام. أحد الأصدقاء من الكتاب العرب قد نقل إليّ ما يلي: أن المرشحين منذ الآن فصاعدا إلى جائزة نوبل للاداب هما اللبناني/ الفرنسي أمين معلوف والليبي إبراهيم الكوني. كيف شكل الكوني ذائقة ذات خصوصية للألمان ؟ لماذا أحبوه وكانت كتبه مع السوري رفيق شامي الأكثر مبيعا من بين الكتاب العرب ؟ هل شعر القارىء الألماني بحميمية الصحراء الكبرى وعذوبة ايقاع ميقات الليل والنهار، البشر والنبات والحيوان، وبساطة التعاملات بين سائر الموجودات التي بمجملها تساهم في تعمق الحوار الإنساني ما بين الشعوب وليس هناك أفضل وأعمق مما يقدمه الإبداع للتعدد والاختلاف والتنوع. لقد أقبل الألماني على أدب الكوني وكأنه في طريقه إلى فرن من تشابك علاقات وسخونة مناخات، وملاحقة للطاقات والأحاسيس، والارتباط بشارات خاصة موجودة في تلك البلاد مباشرة وللألماني المطارد من الزمهرير والصقيع، من الآلية في العلاقات البشرية، الجفاف واللامبالاة التي تصل في بعض الأحيان إلى حدود القتل. في التحفظ والعقلانية. وإذن، كيف نجدد نشاط وهوى قارىء أوربي من أصعب القراء في العالم. القارىء الألماني أصعب من البريطاني، وأدق من الفرنسي، وأكثر تطلبا من الأسباني. ففي العدد الممتاز من مجلة فكر وفن التي ينشرها معهد غوته خصص لأدب المهاجرين والمنفيين پ الكوني غير مشمول بهذا ڤ عدد يضع يده على جروح الذين عافوا لغتهم الأم وذهبوا للكتابة بالألمانية وهاجروا من دول الهامش/ العرب، الأتراك، ومن ايران وأفريقيا/ عدد يريد الاحتفاء بالهجنة ما بين الثقافات والألسن، مكتوب بأقلام بحاثة ألمان وشعراء وكتاب عرب، عراقيين، وأتراك الخ. ليست النوستالجيا الا أحدى الرسائل المجهولة الموجهة إلى البلد البعيد، إلى الداخل. الملاحظ أن ألمانيا لم تعد امبراطورية ولا كانت دولة استعمارية لأية دولة عربية لكنها ها هي تحضر بقوة عبر جميع مراكزها الثقافية التي فتحتها ووزعتها ما بين البلاد العربية ودول شرق آسيا وشمال أفريقيا. الألمان يعملون بهدوء بارد، لكن بإرادة حديدية، بلا زعيق لكن بروية. يدركون ليس من الوارد التنافس مع الولاياتالمتحدة بالإعلام والعسكر والغزو، ولا مع الفرنسيين باستعمارهم الثقافي الذي كان أقوى من الاستعمار السياسي. معهد غوته يذكر بغوته الشاعر الذي تميل كفة ميزانه إلى تلك الحساسية الصارمة والاستقلالية التي تعترض حتى على نفسها. تكتب في هذا العدد كارين أي بسيلادا وهي باحثة وناقدة المانية «أن ألمانيا ظلت متخلفة عن أميركا وفرنسا وبريطانيا فأدب المهاجر الذي يكتبه العربي/ التركي وباقي الجنسيات لا يحظى بالاهتمام النقدي والذي هو جدير به». السوري الأكثر بروزا وتألقا رفيق شامي يقول إن الحنين يرحل خفية» ترك اللغة الأم ودون أعماله بالألمانية. الكاتب التركي فريدون رايموغلو أبتدع مصطلحا من عبارة أوباش التي يطلقها الألمان على الأتراك فيكتب: «إن الجدل الدائر بين الثقافتين مفعم بالتوترات ومع هذا يظل دافعا قويا لإنتاج خلاق» الشاعر السوري عادل قرشولي الذي وصل ألمانيا في العام 1963 واستقر في لابيزغ يجيب شعريا بنص طافح بالمرارة والشجن «لم أفقد ظلي ابدا ذلك الظل الذي ولد بمولدي، كنت أتمنى، لأنني في اللحظة التي تركت فيها وطني وأستقرت قدمي أرض ألمانيا فقدت ظلي. فالحنين إلى اللغة الأم ما زال يخدش الجلد والروح، يشبه حمامة نوح» الكاتب العراقي حسين الموزاني سجل عنوان شهادته/ التضحية باللغة الأم/ في نص شديد القوة بما فعلته الأجهزة القمعية ونظام الطغيان في العراق، فقد قطع على نفسه قسما بأن: «هناك نزعة العقوبة والاقصاء والانتقام سائدة إلى حد بعيد في جميع القطاعات الإعلامية والصحفية العربية المملوكة للمؤسسات الرسمية العربية والأفراد التابعين لها. وبعد سقوط نظام صدام أصبحت أشد مضاء في سياسة الطرد مما كانت عليه. هذه الظاهرة العربية بامتياز هي التي دفعتني إلى التضحية بلغتي الأم» في شهادة الشاعر سلمان توفيق مرثية للعمر والزمن والبلد، في استشراف الأسئلة الوجودية الحارقة: «القدرة على أن يعيش المرء ولوحده تعبير عن قوة الشخصية واستقلالها» أما الكتابة بالألمانية فهو يقول: «أن الكتابة باللغة الأجنبية لا يشعر المرء بعبء وتابوهات لغة الطفولة».