منذ العام 1999، أي منذ طلاقه من المبدعة نيكول كيدمان، والنجم «توم كروز» يبدو دقيقاً وذكياً في اختياراته، فهو لم يعد يظهر في أفلام الحب والرومانسية التي فُرضت عليه بسبب تمتعه بوسامة طاغية، إنما اتجه تركيزه نحو تلك الأفلام الأصيلة الرصينة التي تضمن له في سجلات الخلود السينمائي مكاناً بارزاً، وكأنما هو بذلك يسعى لمنافسة قرينته السابقة «نيكول» التي أصبحت خالدة بشكل أكيد واستثنائي.. «توم كروز»، بُعيد الطلاق، قدم أداءً لافتاً في الفيلم السوداوي (ماغنوليا - Magnolia)، ثم ظهر عام 2002 في فيلم (تقرير الأقلية - Minority Report) الذي كان ضاجاً حتى الثمالة بالإمتاع والإبهار البصري كما هي عادة أفلام المخرج الكبير «ستيفن سبيلبرج».. عقب ذلك اتجه «توم كروز» نحو الشرق، إلى اليابان، إلى عالم القيم والأخلاق والفروسية، عالم محاربي الساموراي، ، ليقدم من هناك رسالة مناهضة لأفكار وتوجهات الغرب الإمبريالية في فيلمه التاريخي ذي النَفَس السياسي (الساموراي الأخير - The Last Samurai ).. كان هذا عرضاً موجزاً لما قام به «توم كروز» خلال سنواته الأخيرة، وقد يبدو هذا العرض بمثابة التقديم اللازم والضروري لتبيان أن ما نثره «توم كروز» من جمال وألق في ثنايا فيلمه الأخير والرائع (الرهينة - Collateral)، ومن خلال شخصية المجرم «فانسنت»، ليس وليد صدفة بل هو امتداد لمسيرة متوهجة ابتدأها قاصداً قبل نحو خمس سنوات من الآن.. توم كروز ظهر بشكل ساحر للغاية في فيلم (الرهينة)، وفيه يؤدي دور قاتل مأجور توكل إليه مهمة قتل ستة أشخاص لهم علاقة بقضية كبيرة ترفعها الولاية ضد مجرم كبير.. الجمال في الفيلم ليس فيما يريد قوله، بل في الكيفية التي يسرد فيها حكايته، فهو يسبح بشكل شاعري في فضاء لوس أنجلس الواسع مصوراً بأسلوب تأملي ساحر عمق التيه والألم الذي يشعر به «الإنسان» في هذه المدينة الموحشة.. الفيلم تجري أحداثه في زمن متواصل غير منقطع، فكل العنف والبشاعة والحكمة والشاعرية ظهرت في ليلة واحدة فقط، ليلة ابتدأت بأفكار رومانسية عذبة وانتهت بشكل بشع وبائس للغاية.. يبدأ الفيلم مع سائق التاكسي «ماكس» -يؤدي دوره باقتدار الأسمر جيمي فوكس- الغارق في وهمه وطموحه، فهو يتمنى أن تكون له ذات يوم شركة ليموزين فاخرة، لكن واقعه لا يوحي بتحقيق أي فكرة وأي طموح، لذلك هو يعمد إلى الهرب والغرق في أحلامه، وفي صورة وضعها أمامه تصور منظراً جميلاً لجزر المالديف حيث الهدوء والسكينة.. «ماكس» الأسمر الباحث عن الهدوء والصفاء يبدأ ليلته بتوصيل زبونة جميلة هي المحامية السمراء «آني»، ومعها يدخل في حوار لطيف ينتهي بأن تمنحه بطاقة بياناتها الخاصة على أمل أن يلتقيا مجدداً.. ومن ذات المبنى الذي دخلت فيه المحامية، يخرج المجرم «فانسنت» - توم كروز - ليركب في نفس التاكسي، مع السائق الأسمر «ماكس» الذي لا يعلم أنه الآن على وشك إركاب الشيطان بذاته، المجرم العتيد «فانسنت» الذي سيبدأ منذ الآن مهمة بشعة يُفني فيها ستة أشخاصٍ لهم علاقة بقضية هامة.. منذ الوهلة الأولى لا يبدو «فانسنت» بتلك الخطورة، فهو وسيم وعلى قدر كبير من الأناقة، وشكله لا يوحي أبداً أنه قاتل مأجور يكسب رزقه من تصفية أناس لا يعرفهم ولا يعلم عنهم شيئاً.. وبشكل طبيعي يبدأ الحوار بين الاثنين، سائق التاكسي والمجرم، وكلا الاثنين لا يعرف عن الآخر إلا في حدود ما تسمح به العلاقات العابرة التي تنشأ بين سائقي التاكسي وزبائنهم، لكن هذه المعرفة تتعمق وتتجذر أكثر حين يعلم سائق التاكسي أن زبونه ما هو إلا مجرم خطير، يحدث ذلك حين تسقط جثة الضحية الأولى على سقف سيارة التاكسي، حينها، ومنذ تلك اللحظة، تبدأ الإثارة، وتبدأ جولة الشيطان، ويعيش سائق التاكسي ليلة عصيبة، حيث أصبح -دون رغبة منه- شريكاً في الجرائم اللاحقة، وذلك بوصفه «رهينة» في يد الشيطان الرجيم.. مخرج الفيلم «مايكل مان» -وهو مخرج الفيلم العظيم (حرارة - Heat)، أحد أفضل أفلام الجريمة المتوفرة في السعودي، من بطولة النجمين «آل باتشينو وَ روبرت دينيرو»- يقدم في فيلمه الأخير «الرهينة» ذات النفس الذي قدمه سابقاً في «حرارة»، حيث عالم المجرمين وما ينطوي عليه من بشاعة وخراب، بالإضافة إلى رسمه صورة ساحرة للمجرم الفارس الأنيق الحكيم الذي يمتلك قيماً أخلاقية تنأى به عن الغرق في مراتع الخيانة والوضاعة، وهو هنا، في صورته الآخاذة هذه، كأنما يفرق بين المجرم وبين اللص، فالمجرم يشع بالحكمة والشرف، ويمتلئ بالعفة والشهامة، بينما اللص فهو وضيع ودنيء.. وهو - أي مايكل مان - ليس معنياً بهذا اللص، لذلك لا وجود في أفلامه إلا لأولئك الفرسان الشرفاء، المجرمين ذوي المبادئ، العتاة القتلة، كما «فانسنت».. هذه الصورة البراقة لهذا المجرم الجنتلمان -وهي ذات الصورة التي ظهرت في فيلم «حرارة» والتي جسدها ببراعة لا توصف النجم روبرت دينيرو- تكتسب روعتها من حجم التناقض الذي تحمله، فهذا المجرم يمتلك أسلوباً راقياً في التعامل، كما أنه أنيق إلى درجة البذخ، وهو في ذات الوقت يقترف جرائم بشعة للغاية.. هذا الجمع بين النقيضين، بين الطهر المطلق وبين نزعة الشر القصوى، هو ما يمنح هذه الشخصية كثيراً من السحر والجاذبية.. في فيلم الجريمة الرائع (أوكسجين - Oxygen) هناك شخصية شبيهة وهناك سحر قريب من هذا السحر، وفي الرواية الأمريكية الخالدة (موبي ديك) هناك إشارة لحجم الرعب الذي يسري في النفس نتيجة المزج بين رمز الخير ورمز الشر في ذات واحدة، فهذا الراوي «إسماعيل» يتحدث لقراء الرواية وهو يرى القبطان المهووس «أهاب» يطارد الحوت العظيم «موبي ديك».. هو يصف لهم هالة الرعب التي تحيط بهذا الحوت الأبيض، فيقول : (برغم هذا.. يثير اللون الأبيض أحياناً رعباً شديداً في نفسي متى ارتبط برمز مخيف.. تأمل الدب القطبي والقرش الأبيض.. ما سر الرعب الذي يثيرانه إن لم يكن اللون الأبيض؟ إن ارتباط اللون الأبيض بالطهر ثم وجوده في كائن يتمتع بهذه الشراسة لهو سر هذا التوجس والرعب).. إنها صورة مستفزة، مرعبة ومثيرة.. وهي صورة منحت «توم كروز»، حضوراً جذاباً ومؤثراً في نفس المشاهد.. وبعيداً عن سحر هذه الشخصية، فالفيلم، وكما ذكرنا من قبل، جماله يكمن في «كيف» قال حكايته، وفي براعة «مايكل مان» الذي رسم أجواء موحشة قاتمة ل«المدينة» وذلك باعتماده اللونين الأسود الأزرق في كثير من مشاهده، كما استخدم اللقطات الواسعة التي منحت الصورة بعداً شاعرياً.. أيضاً جزء من روعة الفيلم تكمن في تلك الكلمات العميقة، الحكيمة، التي نثرها المجرم «فانسنت» في ثنايا الفيلم.. لكن، رغم ذلك، تبقى هناك بعض الملاحظات، منها تلك المبالغة الممجوجة التي حدثت في مشهد قتل المجرم الآسيوي، أيضاً هناك مسألة اعتماد الفيلم على مبدأ «الصدفة» في تطور أحداثه.. فالأحداث هنا لا تنمو بشكل طبيعي ومنطقي، بل تشعر في بعض الأحيان بنوع من الافتعال، فمثلاً في مشهد انقلاب التاكسي، انتهى الحدث تماماً بهرب «توم كروز»، لكن الذي حصل أن سائق التاكسي المرتبك تماماً شاهد ومن قبيل المصادفة المحضة صورة صديقته المحامية السمراء تحت السيارة المقلوبة.. هنا يبدأ حدث جديد تماماً.. وإني لأسأل: ماذا لو لم يشاهد السائق هذه الصورة؟ حينها لن يكون للحدث الجديد أي معنى وأي اعتبار-بالطبع لن يدرك ما أقصد إلا من شاهد الفيلم- هذه المثالب وإن بدت يسيره في نظر البعض، إلا أنه لا يمكن تجاوزها، خاصة حين تتحدث عن فيلم للمخرج المتميز «مايكل مان» الذي عودنا دائماً على إحكام وسبك سيناريوهات أفلامه بشكل يدعو للإدهاش والإعجاب فعلاً، وما فيلمه الخطير (حرارة - Heat) إلا دليل على هذا الإحكام، حيث يبدو الفيلم -رغم فخامته الشكلية الباذخة- أحد أشد الأفلام واقعية.. ومنطقية..