درب من العشق لا درب من الحجر هذا الذي طار بالواحات للجزر ساق الخيام إلى الشطآن فانزلقت عبر المياه شراعاً أبيض الخفر ماذا أرى؟ زورقاً في اليم مندفعاً؟ أم أنه جمل ما ملّ من سفر! تذكرت هذه الأبيات الجميلة للشاعر الدكتور غازي القصيبي رحمه الله التي ألقاها أثناء افتتاح جسر الملك فهد، هذا الإنجاز العظيم الذي ربط بين المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين الذي ظل لسنوات طويلة مجرد فكرة حتى ظهر إلى حيّز الوجود، وأصبح الحلم واقعاً، وتم تدشينه عام 1406ه/1986م، فكان حدثاً كبيراً أبهج الجميع؛ لأنه سهّل الانتقال والسفر من البحرين وإليها، وعزّز العلاقات والروابط بين البلدين الشقيقين، وحقّق العديد من الآمال على الصعيد الاقتصادي. أقول: إنني تذكرت تلك الأبيات وأنا أقطع المسافة عبر هذا الجسر في رحلة قصيرة إلى البحرين البلد الشقيق. كان الجو حاراً مشبعاً بالرطوبة عندما وصلت المنامة يوم السبت 25/6/1432ه (28/5/2011م)، وكنت أتطلع منذ أمد إلى زيارة البحرين زيارة متأنية؛ لأكتشف من خلالها البلد؛ ولأتعرف على حضارته ونهضته الفكرية والاقتصادية بدلاً من تلك الزيارات السريعة والخاطفة التي قد لا تمكن السائح من التجول والاكتشاف، لا سيما عندما تصادف زيارته موعد العطلة الأسبوعية. بعد أن وصلت المنامة عصر ذلك اليوم طفت بعدد من الفنادق المتوسطة، وكان النزول أخيراً في فندق متواضع وهادئ بالقرب من شارع الحكومة أشهر شوارع العاصمة سابقاً. وعلى مقربة منه يقع أبرز معلم في المنامة، وهو (باب البحرين) الذي بني عام 1949م، وقيل: إن سبب تسميته بهذا الاسم؛ لأنه المدخل الرئيس إلى قلب المنامة سابقاً. وتبدو من خلف (باب البحرين) العديد من الأسواق والحوانيت والمقاهي الشعبية. ويعلو الباب قوسان متجاوران على شكل دائري يضفيان جمالاً ورونقاً على المدخل وعلى المنطقة المحيطة بالباب. إن من زار البحرين من سنوات قلائل وزارها الآن سيلحظ الفرق الشاسع، فالبلد آخذ في النمو والاتساع ومقبل على نهضة عمرانية وسياحية، فالعمارات الضخمة والأبراج الشاهقة منتشرة على امتداد البحر بعد أن تم ردم الشواطئ؛ لتقام عليها تلك المباني. ويسترعي انتباه الزائر للبحرين كثرة الحدائق الغنّاء والبساتين النضرة والشوارع الفسيحة، كما أن البحرين تعد من الدول الغنية بالمواقع الأثرية من قلاع وحصون ومساجد ومقابر. وقد جاءت إلى البحرين في أوائل الخمسينيات من القرن المنصرم بعثة دانمركية للآثار مكونة من ثلاثة علماء بقصد التنقيب عن الآثار الموجودة، وقد اكتشفت البعثة أن البحرين كانت مسكونة في العصر الحجري، وهذا يدل على أنه كان في البحرين حضارة عريقة وراقية. كما اكتشفت البعثة وجود بئر لمعبد قديم في (عين أم السجور)، وأيضاً تم العثور على توابيت فخارية طليت بالقار وأسلحة وأختام من عصر البابليين الأخير. ومن آثار البحرين القديمة التي أتيح لي زيارتها في رحلتي هذه - رغم الحر اللاهب والجو الخانق - (قلعة عراد) بالمنامة التي شيدت في عهد سعيد بن سلطان آل أبي سعيد حاكم عُمان عندما استولى على البحرين عام 1215ه، وقد تم ترميمها غير مرة. و(قلعة البحرين) الواقعة في الطرف الشمالي من المنامة وعلى مقربة منها يقع معبد (بربار) الذي يبلغ عمره أكثر من خمسة آلاف سنة، وقلعة (عجاج) التي يعود بناؤها إلى زمن البرتغاليين. ومن المساجد الأثرية المشهورة مسجد (الخميس) الذي بني في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه -، وقد مررت به وشاهدت مئذنتيه وما تبقى من معالمه. ومن أبرز الآثار الحديثة بيت الشيخ عيسى بن علي آل خليفة (18481932م) في المحرق، وقد كتب في اللافتة المعلقة في المدخل: إن حسن بن عبدالله بن أحمد الملقب بالفاتح هو الذي بناه عام 1800م، ثم اتخذه سكناً بعد ذلك عيسى بن علي طيلة فترة حكمه التي بلغت 63عاماً حتى وفاته عام 1932م. والبيت مكوّن من طابقين ويحتوي على عدد كبير من الحجرات مختلفة الاتساع والأحجام، إضافة إلى وجود فناء فسيح في الدور الأرضي؛ ولعل أكثر ما يلفت نظر الزائر لهذا البيت وجود برج هوائي يسمح بدخول الهواء إلى الحجرات عبر النوافذ الخشبية. وقد لاحظت وأنا أتجول في أرجاء البيت وأتأمل ساحاته وممراته مدى سماكة الجدران، فعرض الجدار لا يقل عن المتر، كما أن الأبواب ليست مرتفعة، فلا بد من الانحناء قليلاً. وقد أخبرني الأخ الأستاذ محمد الحمدان المسؤول عن البيت أن إحدى كريمات الشيخ عيسى كانت آخر من نزل في هذا البيت، وقد انتقلت منه عام 1970م. وعلى مقربة من بيت الشيخ عيسى يقع بيت (سيادي) أحد أشهر تجار اللؤلؤ في البحرين، وبجواره يقع مسجد (سيادي) الأثري، وقد حاولت دخول هذا المنزل فعلمت أنه مغلق وغير مسموح بدخول السياح، وهو بحاجة إلى صيانة وترميم، وفي عام 1974م قام متحف البحرين بترميمه من أجل المحافظة على هذا المنزل الأثري الذي يعد من أبرز المعالم في المحرّق. وفي الشارع المجاور لبيت الشيخ عيسى يقع مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث الذي تم افتتاحه عام 2002م، ويمتاز بطرازه المعماري الأنيق. وقد استضاف المركز منذ افتتاحه أكثر من مئتي شخصية ما بين أدبية وسياسية وفنية. وملحق بالمركز بيت عبدالله الزائد لتراث البحرين الصحفي، وبيت الشعر لإبراهيم العريِّض، وبيت محمد بن فارس لفن الصوت. ولعل من أجل إنجازات المركز هو قيامه بإعادة طباعة مجلة (صوت البحرين) في أربعة مجلدات ضخام، والمجلة صدرت في المدة من( 13691373ه)، وهي مجلة شهرية تُعنى بالأدب والثقافة والتربية والتعليم والاجتماع، ومديرها المسؤول إبراهيم حسن كمال، وتصدر عن لجنة من شباب البحرين آنذاك، وهم: حسن جواد الجشي، وعبدالعزيز الشملان، وعلي التاجر، وعبدالرحمن الباكر. أما الطباعة فكانت تطبع في دار المكشوف ببيروت. ومن أهم وأبرز المؤسسات الثقافية في البحرين التي تعد رافداً مهماً من روافد المعرفة (مركز عيسى الثقافي)، وقد تم افتتاحه منذ عامين تقريباً، وهذا الصرح العلمي الكبير يهدف إلى توفير الكتب والمطبوعات في مختلف العلوم والفنون، ويقوم أيضاً بتنظيم الأنشطة والبرامج والمعارض والمؤتمرات والندوات الثقافية والعلمية. وملحق بالمركز مكتبة غنية بالكتب والمراجع يتكون مبناها من دورين: الأرضي يضم الكتب والمراجع والدوريات وقاعة كبيرة للمطالعة، والدور الأول يحتوي على قسم خاص بالقواميس واللغات وقاعة فسيحة للمطالعة، والدور الثاني يضم قسماً خاصاً بالكتاب الإلكتروني، وقسماً خاصاً بإدارة المكتبة، ويوجد بهذا الدور مكتبة الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة المهداة إلى المكتبة، وتضم الكثير من الكتب الدينية والأدبية والتاريخية. والزائر للمكتبة يلحظ أن أكثر العاملين بها هن من الفتيات البحرينيات! وفي الجهة المقابلة للمركز يقع صرح آخر يعد تحفة معمارية فريدة ويبدو شامخاً من بعيد، وهو جامع أحمد الفاتح أكبر جوامع البحرين وأكثرها جمالاً وبهاء، ولم أر جامعاً حديثاً يفوقه من حيث المساحة والمزايا الفنية والهندسية المدهشة سوى جامع الصالح بصنعاء الذي يعد من أهم الجوامع والمعالم في الوطن العربي الذي يمكن مشاهدته من جميع الاتجاهات، وجامع الفاتح مكوّن من دورين وملحق به مركز أحمد الفاتح الإسلامي الذي اُفتتح عام 1988م، ويضم مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم ومكتبة إسلامية تحتوي على عدد كبير من الكتب الدينية، إضافة إلى وجود سكن داخلي للدارسين. ولعل أكثر ما يشد السائح ويحرص على زيارته لأي بلد يحل به هي زيارة المتحف الوطني، وقد رأيت أفواجاً من السياح غير العرب قد اُصطفوا عند مدخل (متحف البحرين) الذي يضم آثاراً قديمة تعود إلى آلاف السنين قد وزعت على قاعاته وممراته في تنسيق جميل. وقد تم افتتاح المتحف عام 1988م ويحتوي على عدة أقسام موزعة على دورين، فهناك قسم خاص بالعادات والتقاليد يضم بعض أزياء المرأة البحرينية القديمة، وأيضاً ما يتعلق بعادات الخطبة والزواج في الماضي، وما يصاحب الأعراس من أغان شعبية وقرع للطبول والدفوف. وهناك قسم خاص بالحرف والصناعات القديمة ويضم عدداً من الحرف القديمة التي اندثرت وكان يزاولها المجتمع البحراني قديماً، وثمة قسم خاص بالمخطوطات والوثائق ويضم بعض النسخ من القرآن الكريم مخطوطة ومطبوعة، ورسائل كان يرسلها بعض حكام آل خليفة، كما يوجد جناح خاص بالصحافة البحرينية التي احتجبت عن الصدور مثل: جريدة البحرين،والقافلة، والزمان وغيرهما. ومن الأقسام المهمة في المتحف القسم الخاص بالحضارات القديمة التي تعاقبت على البحرين، وهي تعطي فكرة جيدة عن الحياة وازدهارها في البحرين على مدى آلاف السنين، والتي تم اكتشافها عن طريق عمليات البحث والتنقيب التي أثبت المؤرخون والعلماء أن (دلمون) القديمة هي جزيرة البحرين. كنت ولم أزل في الرياض قد رتبت مع الأخ الشاعر أحمد اللهيب الذي يعمل معلماً في البحرين أن نلتقي في المنامة حال وصولي إلى هناك، وما كدت اتصل به حتى هب مسرعاً رغم مشاغله متجشماً مشاق الطريق من مقر سكنه في منطقة الرفاع إلى مقر فندقي في المنامة، وظل ملازماً لي لا نكاد نفترق طوال فترة إقامتي، وعرض علي أن أصحبه في جولة استطلاعية على بعض معالم البلد فقبلت شاكراً. في البداية انطلقنا قاصدين بعض الضواحي: كالرفاع والعوالي والبديع وضاحية السيف والسهلة، وشاهدنا مدينة عيسى و(عين عذاري) الشهيرة التي كانت تعد من أشهر الينابيع العذبة في البحرين، ثم عرّجنا على بعض المكتبات التجارية للاطلاع على ما تضمه من كتب حديثة، فزرنا أولاً (المكتبة الوطنية)، ثم مكتبة الأيام في شارع المعارض، ثم ذهبنا إلى مكتبة البحرين والطليعة وفخراوي، ومن الأخيرة ابتعت عدداً من دواوين الشاعر الأستاذ إبراهيم العريّض، وقد أحسنت صنعاً تلك المكتبة حينما أعادت طباعة دواوين العريّض طباعة أنيقة، ومن تلك الدواوين: شموع، والعرائس، وقبلتان، وملحمة شعرية بعنوان “ أرض الشهداء”، وفي الطريق شاهدنا بناءً شامخاً تعلوه لافتة كبيرة كتب عليها جريدة (أخبار الخليج) أقدم الصحف البحرينية، وهي جريدة يومية في عامها السادس والثلاثين. وتصدر إلى جانب ( أخبار الخليج ) طائفة من الصحف ما بين يومية وأسبوعية، كالوطن، والأيام، والبلد، والعهد. ثم امتدت الجولة لتشمل بعض المراكز الثقافية والأندية الأدبية، كمركز عبدالرحمن كانو الثقافي، وأسرة الأدباء والكتاب البحرينية، وانتهى بنا المطاف أخيراً لنقف عند مبنى أنيق هو ( نادي العروبة ) في منطقة الجفير، وقد تم إنشاؤه عام 1939م على يد ثلة من أدباء وشعراء البحرين. وقد وزعت علينا بعض النسخ من الكتاب التذكاري الصادر منذ سنوات بمناسبة مرور ستين عاماً على إنشاء النادي، وفيه رصد لمسيرة النادي ولأنشطته المتنوعة. كما كرم الإخوان فوزعوا علينا أيضاً كتاباً ضخماً عنوانه “مراسلات إبراهيم العريّض الخاصة”، وهي الرسائل التي تلقاها العريّض من أدباء عصره، واضطلع الدكتور منصور سرحان بإعدادها للنشر بالتعاون مع إدارة المتاحف والتراث. إن للأستاذ العريّض مكاناً مرموماً ومنزلة رفيعة في قلوب البحرانيين كمنزلة جبران في لبنان وكمنزلة الشابي في تونس. وقد لمع اسمه منذ الأربعينيات من القرن المنصرم شاعراً وأديباً وناقداً ومحاضراً ومترجماً يجيد التحدث بعدة لغات أجنبية. وبعد، فهذه انطباعات سريعة وخاطفة عن مملكة البحرين الشقيقة إثر رحلة قصيرة لم تزد عن بضعة أيام أحسبها كافية لبلد صغير في مساحته وفي عدد سكانه، ولكنه كبير في حضارته وفي تاريخه المجيد، وهذه الانطباعات العابرة ليس فيها من العمق ما يطمح إليه القارئ المتلهف لمعرفة لتاريخ هذا البلد الشقيق وحضارته.