صاحب القنديل ؟! .. الذي أشعل النور يوما ومضى .. هل نتذكره ؟! أم طال غيابه فنسيناه مع المنسيين ؟! .. تلك أيام خلت ، والباقي هو ما سطره يحيى حقي من كلمات ... صح النوم – قنديل أم هاشم – دماء وطين – خليها على الله – خطوات في النقد – فجر القصة القصيرة – عطر الأحباب – تعالى معي إلى الكونسير – أنشودة البساطة وغيرها من ترجمات المسرح والرواية وكتب السيرة الخ ..الخ ..الخ.. كان يحيى حقي أحد أصحاب الرؤى الإبداعية التي مهدت الطريق إلى كتابة جديدة غير ما كانت عليه عند أصحاب الأساليب ، المشغولين برطانة الكلمات. ليحيى حقي منهجه فهو يعتبر أن ما كتبه في اللغة العربية من روايات وقصص وتقديمه للكثير من كتب الفنون والموسيقى والغناء والنقد خضع لإيمانه الذي يتمثل في : الإعلاء من شأن الإرادة وجعلها أساسا لجميع الفضائل. الشغف بالدراسات والتحليلات النفسية . التنبيه لمفارقات الحياة ، وأول هذه المفارقات جبروت الإنسان وضعفه في وقت واحد .. ومن هنا تنشأ نغمة السخرية التى تسري فى كثير من قصصه. وأنا كنت في أول الشباب اجلس بالقرب من جسر على النهر في قريتي بزمن الخريف ، وآخر ثمرات التين تغادر أشجارها ، والطيور المهاجرة تعود حيث أوطانها وأنا أقبض على كتاب "قنديل أم هاشم" الذي نبهني للسؤال الأول عن علاقة الشرق بالغرب ، وعلاقة الدين بالعلم. وكان جد إسماعيل في القنديل قد جاء إلى حي السيدة زينب العريق وهو صبي ، وبمجرد أن رأى عتبة المسجد الرخام هوى على الأرض يقبل العتبة ويبكى شوقا لست المقام. لقد ظل إسماعيل طوال الرواية يحمل سؤاله الجوهري الذي حيره وأرتد به من هناك إلى هنا ليفهم ويتعلم . لماذا أصاب العمى فاطمة بعلاج العلم بعد أن غادرت زيت القنديل الذي ينير مقام السيدة زينب ؟! حين عاد الطبيب من أوربا محتشدا بعلمه ومعارفه وحداثته وواجه ذلك الجانب الخفي من الروح ، هتف لنفسه "فهمت الآن ما كان خافيا عليّ المبدع الكبير "يحيى حقي" الكاتب متعدد المواهب الذي كتب القصة والرواية والمقالة واكتشف أسلوبه العلمي القائم على الإزاحة والاختصار وجسد عالما فريدا شمل الصعيد بغرابته وأسطوريته وحيوانه وذلك الجانب الخفي المنسوج بقدرة الخالق . وقدم لنا المدينة الشعبية وعالم الجماعات المغمورة التي تبحث عن ستر أرواحها أمام القدر مرة ، وأمام أصحاب النفوذ مرة، الذين يملكون المصائر .. وتتعمق تجربة الرائد العظيم بما قدمه عن هؤلاء الدراويش الذين يقيمون في أزقة المدينة وحواريها ، بين مستقر الاضرحة وظل التكيات والمضايف والعطوف وتخوم المقابر حيث يقيم هؤلاء . يقول الناقد الكبير محمود أمين العالم . "عند يحيى حقي تجد التصوف مركبا خلاقا يركز في صيغة واحدة بين الجسد والروح ، بين المادة والفكر ،بين العلم والفن بين الموضوعية والوجدانية ، وعبر رؤيته هذه تحرك يحيى حقي عبر الماضي والحاضر عبر الأشياء والأشخاص والمعاني والقيم". ظل يحيى حقي أستاذا حقيقيا لجيلنا – جيل الستينيات ومرجعية للصدق مع الذات ، والمعلم الذي فتح أبواب التواصل بين هذا الجيل والمتلقي الذى يدرب حواسه على كتابة جديدة شابة . فتح أبواب المجلة العريقة لأعداد خاصة لإنتاج هذا الجيل يعاونه اثنان من شباب هذا الجيل "كمال ممدوح حمدي وعبد الله خيرت". قدم العديد من المجموعات القصصية للكتاب من أنحاء الوطن العربي ، لا أنسى فى ذلك الوقت تقديمه للقاص السعودي المبدع محمد علوان حيث فرحنا وقتها بهذا التقديم لأن يحيى حقي كان يتميز بحساسية خاصة في اكتشاف المواهب ،والتعريف والحفاوة بمواهبهم . أواخر الستينيات دخلت عليه مكتبة وعرضت عليه قصة قصيرة ،أنا القادم من قرية بعيدة أجهل السكك وخالي الوفاض من المعارف والأصدقاء استقبلني بما يليق بغريب ، وشعرت كأنني اعرفه من سنين هادئا ومحبا وساخرا. طلب مني أن أقرأ النص فقرأته،وعاد وطلب معاودة القراءة وكنت أنظره في لمحه يدهشني حسن إصغائه وانتباهه. وحين انتهيت علق بكلمات قليلة "أنت حسك جديد في الكتابة عن الريف. سلم القصة للأستاذ سكرتير التحرير . أول الشهر وجدت القصة منشورة فكاد يذهب عقلي عندما رأيت اسمي وسط الكبار من الأدباء والفنانين وهمست : وصدق وعد الرجل . يقول "نجيب محفوظ" عن "يحيى حقي" "اعتبره من شوامخ نهضتنا الأدبية وأثني على الظروف التي عرفتني به شخصيا منذ عملت تحت رئاسته في مصلحة الفنون وسيظل يحيى حقي في نفسي هو يحيي حقي ، بكل ما يرمز إليه من جمال وعطاء وخلق . فى ذكراه لا أنسى مآثره وقيمته الأدبية ، واعتبره أحد مؤسسي الحداثة في أدبنا العربي ، عليه رحمة الله .