إن أول ما يتبادر إلى ذهن الشاعر عندما يريد ترجمة شعوره المستمد من واقع أو خيال أو هو توهم، هي مفردات لغة قصيدته فهي أوعية معانيه ووسيلة الوصول بها، وذلك وقت إثارة قريحته، فتتبادر مجتمعة مستعدة لتلبية حاجته إلى البوح والتعبير مستعدة لنقل ما يريد إلى المتلقي، وهذه القريحة أثيرت جراء مشهد أو موقف ، سواء كان هذا الموقف حقيقة أو خيالا ، واقعي خاص بالشاعر نفسه أو مشاركة منه لغيره، وهذا الحضور لن يكون لكل المفردات اللغوية التي في القواميس أو عند الشعراء الآخرين أو التي في دنيا الكلام بل لحصيلة ومخزون ذاكرة الشاعر نفسه فقط لا أكثر. وفي كل غرض من أغراض الشعر هناك مفردات محددة ينهل منها، بقدر المخزون لديه. ومع مرور الوقت وكثرة التجربة يتخذ الشاعر نمطاً شبه محدد لتفريغ شعوره عبر القصائد ، ويتحدد له اتجاه يراه ويجد نفسه أسيره باختياره ، فيصف ويهجو ويمدح ويرثي ويقول الغزل وينصح ويرشد ، وفي كل غرض منها له اتجاه يألفه متأثرا بالحالة الاجتماعية التي تحيط به فهي التي تتلقى بوحه وهي التي تستعذب هذا وترفض ذاك وما يروق لها يحاول الشاعر أن يميل إليه وينهجه ليس إرضاء لها فقط بل كسبا لجماهيره . ومع مرور الوقت يتقولب الشاعر في حصيلته اللغوية وطريقته ونمط بوحه، ومع تكرار ذلك لا يكاد يجيد غيره ن فالخروج مما اعتداده يعد تجربة جديدة لديه يصعب عليه طرقها ومحاولة المجازفة. ففي الغزل مثلا، كان النمط السائد في فترة سابقة وعند العديد من شعراء اليوم هو مخاطبة المتلقي بلغة مباشرة تقليدية تنصب كلها على التغزل في الجسد فمحبوبة الشاعر يكاد شاعرها أن يعريها للسامع، من شعرها إلى عينيها وشفتيها وأنفها وأسنانها حتى حلقها ورقبتها ولسانها، ووصف خصرها ومشيتها ووقوفها وذراعيها وساقيها بل وردفها وحركة ردفها ولم يبق شيء من الستر إلا كشف متجاهلا الكثير من مستجدات قادمة وتبدل الزمن، فالقصيدة مثلا والحالة تلك سرعان ما تتراجع عن واجهة الاهتمام بسبب الأسلوب وفقدانها الجماليات والصور الفنية وطغيان التقليدية المباشرة الأضعف عند الذائقة العامة. الجسد إذا في شعر الغزل صار مادة يعتمد عليها بعض الشعراء وقوام القصيدة عنده ، فهو يستعرض صورا كثيرة ويجسد محبوبته ويستعرض أوصافها الظاهرة مضيفا شيئا من الخيال ومكملا كل نواقصها بمفردات تتسم بعدم واقعيتها حيناً وبصور جمالية يتوهمها أحياناً كثيرة، وقد يهدف إلى رفع قصيدته وتجويد سبكها وحبكها أكثر من كونه مهتماً بمن يعنيها في القصيدة، ذلك لأن إعجابه بكمالات عطائه الشعري أحياناً يجمله أمام من يتلقى قصيدته، ومن هنا تبدأ المفارقات بين المصداقية والاهتمام.. لكن بغفلة من أغراضه كلها يغرق في وصف الجسد من حيث الكمال والجمال فلا يترك شبراً إلا وخصص له شطراً حتى تبقى القصيدة في النهاية استعراض إنسانة مشاع للجميع الدخول في تفاصيل جسدها والتحديق فيه، على غير الوجهة المقبولة والطبيعية فالذي له محبوبة لا يجعلها في كشف كهذا، وهذا جعل من شعر الغزل خصوصاً منطقة غير مقبولة عند العديد من المتلقين وحتى الشعراء ، فبعضهم يرى أنه خطى خطوات في غير الطريق المناسب، لكن بعد أن قال العديد من هذا النوع من الغزل . وعكس هذا صحيح، فبعض الشعراء ابتعد كليا عن لغة الجسد في غزله ووصفه وأخذ جانب التشبيه مبرزاً صورا فنية في القصيدة ولم يتمحور حول تفاصيل مادية بحتة، وإنما أخذ بتحديث العبارة وتطوير الأسلوب ولا تكاد تجد التغزل الهابط في لغته وهذا بلا شك يرفع من قيمة عطائه ويجعل للصورة الفنية مذاقها الخاص مع إطالة في عمر القصيدة نفسها حيث لا يعتريها الهرم العاجل. ونأخذ مثالا على الصور الجمالية والفنية العامة، قصيدة للشاعر سعود السبيعي يقول فيها : الفلسفه في وصف الاحباب دستور والغصن تعرف طلعته من بذوره حبيبتي در على الحسن منثور شمس يداعبها الفضا في غروره ماهي قمر لان القمر كله قصور ماهوب مثل الشمس في أي صورة الشمس وسط الكون هي مصدر النور والا القمر ياخذ من الشمس نوره وشفنا القمر عرضه من الناس مكسور (ارم سترنق) مصور فيه صوره والشمس عذرا عرضها دوم مستور ولا كشف إنسان للشمس عوره والشمس رمز للأنوثه ومذكور رمز الشرف والعز رمز البكوره والشمس تخفي لامها داخل الزور والا القمر لامه تبين سفوره والشمس تدفي الناس والغيم والبور حتى القمر تدفيه مادفا حفوره والشمس وجه كامل يبري صدور والا القمر مايكتمل في ظهوره واذا اكتمل وجه القمر كله بثور والشمس تعمي عين نفس جسوره ونلف حول الشمس والكون ديجور نحتك فيها كل عامٍ بدوره والا القمر مع كوكب الأرض محصور لو تتركه ارض البشر ضاع دوره حبيبتي شمس تشبه بها الحور والشمس تشبه شكلها في حضوره الشاعر مثل العديد من الشعراء تجاوز هنا في وصفه محبوبته والتغزل فيها لغة الجسد ولم يكد يذكر شيئا حولها، فهو ربما يقصد محبوبة إنسانة، وربما مدينة وربما أشياء كثيرة ترد في النهاية، لم يذكر لها صفة محددة من حورها أو شعرها أو ثغرها أو وصف مشيتها أو تفاصيل جسدها وحركتها وبالتالي أطلقها لتناسب العموم، و ما يدرينا ربما قال: إنه يقصد شيئا مختلفا تماما، وهذا اللون من التناول والأسلوب يعد راقياً من الناحيتين اللغوية والاجتماعية، ففيه بلاغة لا تنتهي بالملل من تكرار سماع الوصف الجسدي، وفيه أيضا مراعاة النواحي الاجتماعية فالكثير من الناس لا يحب ولا يحبذ تناول وصف الجسد بشكل مبتذل من أجل عشق ربما لا يتعدى حد إرضاء الخيال.