كانت قريتي تعج بكثير من الصالحين الأتقياء ولكن.. البيوت مقفلة على جراحاتها.. وعوزها.. بل وأسرارها. كانت حياتي البائسة تحت سلطة زوجة خالي الجائرة، تزرع في قلبي كثيراً من الصبر والتحمل لأني شعرت بما يشعر به الغريب حين دخوله البلاد وتصوب نحوه كثير من العيون علامات الاستفهام لقدومه. في أول يوم لي في منزلهما كانت تغلف نظراتها أشياء غامضة فهمتها بحسي الطفولي.. كانوا يقولون لي بأنه الحزن لرحيل والديك، ولكني ألمس غير ذلك حيث التقت نظرتها مع نظرة خالي البعيد عنا منذ عرفت الحياة.. كانوا حائرين.. أين سيكون مباتي الليلة، من من الأولاد سيتبرع باستضافة هذه الطفلة الصغيرة البائسة وربما الأقل مستوى في نظرهم!! حملت أمتعتي القليلة واتجهت نحو غرفتها.. نعم دون أن أنتظر أن تفتك بهما الأفكار والأحاسيس بثقلي.. دلفت من باب الغرفة.. كان مواربا وهي واقفة بيدها مجموعة من الملابس تحاول فرزها للكي لاحقا. التفتت نحوي.. بل نزلت لمستوى طولي وهي تحاول التخفيف عني مرحبة بلجوئي إليها.. كان لعينيها بريق.. شاطئ فائض. همست لي.. «أنا ماما كلاص حبيبتي أنت ما فيه خوف!!!». نمت ليلتي وقد فقدت رائحة فراشي النظيف ولون غرفتي البحري وهمهمات أمي وهي تطفئ النور بعدما تتأكد من نومي. ولكن لم أنس رفيقة طفولتي.. هدية أبي لي دميتي الناعمة ذات الشعر الغزير، فقد حضنتها واستسلمت لغدي المجهول فلعل بعد العسر يسرا، لأن رحيل والدتي ووالدي فجأة من أمامي لم يكن بالأمر البسيط بل اصابني بنوع من الحزن المغلف بالصمت والتبلد ولو ظاهرياً أمام الجميع لكي أثبت للجميع بأني قوية وقادرة على التحمل.. حتى صوت بسملة أبي آخر الليل وقراءته القرآن بصوت شجي كثيراً ما كان يطوف بذهني وأسمعه في كل لحظة هم وحرج فكان لقلبي الصغير ذي الاثني عشر ربيعا بلسما شافيا من الآلام. تأملت الحياة وأنا أفرح بانقضاء سنواتها وأعد نفسي بالحياة الأخرى التي تجعلني سيدة منزل صغير ترفرف عليه أشرطة السعادة والتفاهم والحب ولكن!!! أتممت العشرين عاما وهممت بالواحدة بعده لأفيق يوما على طرقات خفيفة عبر نافذة عالمي كأنها نقش. نعم لقد دخل حياتي شاب في الثلاثين من عمره يغلفه الصلاح ظاهريا.. يلتزم بأدب الحديث وحسن المعاملة. وأزف إليه وتمضي أيامي معه لتصفعني حقيقة طبعه الجاف المنافق حين وقف أمامي رافضاً إكمال ما تبقى لي من سنوات كفاح فلم يكن هناك سوى شهر واحد.. ثلاثون يوما على مشروع التخرج.. على تقديم امتحاني الأخير.. بحجة أني تعلمت بما فيه الكفاية وأن البكالوريوس سيكون سببا في اعطائي الإحساس بالمساواة به. وجاهدته.. حتى استلمت وثيقة تخرجي بمرارة والعميدة تبتسم لي بفرح مهنئة لنجاحي وهي لا تعلم بما يختلط مشاعري من مرارة وألم ممزوجين بالشعور بالخوف والقلق على مصير وثيقتي هذه. حتى هدأت العاصفة نوعا ما واستقرت مشاعري وأنا أجاهد لأصل إلى ما في نفسه من ثورات بركانية نحوي.. أجده دائم التضجر من أطفالي.. دائم الشكوى من وجوده معي ومعهم!!! أجده يصرح بأن يوم زواجه مني هو الغلطة الكبرى في حياته الكبرى المليئة بالطموح كما يقول؟!!؟ وأتفاجأ به يوماً وهو يشد الرحال بحجة إكمال تعليمه بعيداً عن هذا العش الصغير!!! فأصمت وقلبي يحدثني بأن أبحث بين طيات الحياة عن مكان لي وهؤلاء الأفواه.. فقد اتضحت الصورة أمامي حقيقة لا حلما واقعا لتركيبة شخصيته الحاقدة.. الأنانية. ويغيب.. ويغيب ويطول غيابه حتى تناهى إلى أسماعي خبر حياته الجديدة فأسأل ماذا كان ينقصني.. لم يكن هدفه العلم ولم يكن هدفه شيئا آخر يرفع به بنيان حياتنا الصغيرة! لقد عرفت حياته الأخرى.. زوجة بعيدة كل البعد عن وقارنا.. وعن عاداتنا النابعة من ديننا، زوجة أجنبية اختار الحياة معها بعيدا عنا. والتفت أبحث حتى أخرجتها من بين ركام الأشياء.. كانت تربض عليها خوفا من الإتلاف.. نعم هي وثيقتي التي ستنتشلني من بين براثن الأوجاع.. وأخرجتها وكأنني قطرة مطر تائهة انسابت بين فروع الأشجار وتوزعت أجزائها على أغصان الحياة! انخرطت.. وعملت.. ونجحت وأنا أحمد الله كثيرا على عدم توقفي في تلك الأيام. وقفت أمام المرآة عندما رأيتها ذات يوم في مناسبة ولم يكن يعلم بحضوري ذلك الحفل!؟ قابلتها على أنني امرأة أخرى لا تنتمي لحياتها بشيء.. امرأة مطعونة بوجودها الجائر. حدثتها.. وجدتها قالبا فارغا مهترئا، حاولت ترميمه بأنواع كثيرة من المساحيق الباهظة الثمن!!! بالطبع من جيبه هو. تكلمت معها عن كل شيء، وفاجأني افتقارها إلى أبسط المعلومات وخاصة الدينية، فهي لا تملك إلا الفتات القليل كمظهر.. وقفت أمام المرأة أقارن بين قسماتي وقسماتها.. ظهر لي كثير من الاختلافات بالطبع لصالحي بلا أنانية أو تهيؤ. تذكرت رفض زوجة خالي المستميت لمن تقدم لي عدة مرات وكانت بوادر الصلاح والهداية قد شكلته قلباً وقالباً وكان يتمنى الارتباط بي لنسير معاً صوب الخير.. وقبلت بهذا، لم أكن أعلم لم هذا الحقد الدفين نحوي.. لماذا هذا الإحساس بأنني سبب تعاستها طوال إقامتي.. رغم أني كنت أعيش عالماً خاصاً بي يتقلب وتدخل عليه كثير من التغييرات بحسب تنوع العاملات وتبدلهن.. ولكن لم أنس صديقتي التي تعهدت أن تعاملني كأم منذ دخولي منزل خالي.. وهي التي أصرت على تمديد فترة إقامتها خمس سنوات لأجلي!.. حتى اطمأنت على أنني أصبحت ناضجة.. لي شخصية تستطيع الاعتماد على نفسها في الأوقات الحرجة؟!!! وفهمت أنني اقتحمت مملكتها.. خاصتها.. فصممت على زجي بمتاهات هذا الزواج الفاشل!، لكنها الظروف هي التي دفعتني وسط أطفالها رغم تجنبي التام الاحتكاك بهما أو بها.. أو إعطائي لنفسي الحق بالمشاركة بأي مناسبة تخص العائلة حتى لا تظهر عواصفها نحوي! رجعت لواقعي فبكيت ولكن ليس أمام أطفالي.. بل بغرفتي المليئة بكراسات التصحيح ودفاتر التحضير وأنا أنظف قاربي وأمسح ما علق به من خطوط حائرة وخربشة جائرة وأتوسط المركب ملقية بمرساي تاركة زورقي يسير وسط بحر الحياة ليختار الطريق الذي يحفه الأمان وتغلف أجواءه نعمة النسيان لألتحق بركب الراحلين!