لقد كان صيام رمضان تهيئة للنفس وتوطينا لها على فعل الخير والإحساس بالآخرين , ولهذا كان مناسبا جدا أن يختم الله الصيام بصدقة الفطر , بعد أن يلسع الجوع الغني الواجد , ليعلم كيف يفعل الجوع بالفقير المعدم , فترق نفسه وتطيب فيجود بما كتب الله له , شكرا للخالق على نعمه , ومواساة للمساكين والمحتاجين من المسلمين . والصدقة كما أنها طهرة ، وتزكية للمتصدق ، فإنها أيضا لسد الحاجات ، وجبر كسر المساكين , فكان من الأجدر بنا التفكير بالطرق الناجعة التي تقضي بها الصدقة على الفقر , فنحسن التنظيم والتخطيط والتوزيع ، ونجد الآلية التي يصل بها الحق إلى أهله ؟ أليس الأولى قبل الوقوف عند حرفية النصوص أن ننظر في مقاصد التشريع في الإسلام التي هي بمثابة الموجه والشارح للنص فنفهمه على ضوئها ؟ أليست الحكمة من فرض الصدقة معلومة ؟ ألم تشرع لمصلحة المسكين ومواساته وسد حاجته ؟ ألم تشرع تخفيفا عنه ، ورحمة به ، وشفقة عليه ؟ فلماذا نصر على أن نجعل ما نعطي المسكين زيادة له في العناء والهم ، ونرفض إلا أن نخرج صدقة الفطر من الأصناف التي جاء بها الحديث الشريف, وهو يحدد آنذاك طعاما لم يعد اليوم هو القوت الذي يقتات به الناس؟!! فالتمر والشعير والزبيب الذي نص عليه الحديث لم يعد اليوم قوتا مستقلا ، وإنما صار شيئا مما يتفكه به الناس. أليس من الجمود أن نظل متشبثين بها ونحن نعلم أن الصدقة لها هدف وغاية معلومة لا تتحقق بهذه الأصناف؟ أليس وجيها أن يقال إن إخراج هذه الأصناف لا يجزئ في صدقة الفطر وإن كان منصوصا عليها ؛ لأن النص كان مراعيا لحالة الناس الاجتماعية والاقتصادية آنذاك ؟ وببساطة ، هل تسد هذه الأصناف حاجة الناس اليوم ؟ الجواب : كما أظن ، لا. وإذا كان كذلك فهي لم تفِ بالغرض من الصدقة ، ولم تغنِ المسكين من السؤال والتطلع لما في أيدي الآخرين ,,, أليس كذلك ؟ لقد كانت هذه الأصناف التي نص عليها الحديث يقتات بها العرب من غير معالجة , فالتمر يؤكل بمجرد نضجه , و الزبيب بمجرد جفافه , والشعير لا يحتاج إلى كثير من العناء. فالفقير حينها بمجرد ما يمتلكها يسد بها حاجته ويطعم بها عياله , ويكون من الأغنياء حسب المعايير في ذلك الزمان . لكن تعال معي وانظر كيف يفعل الفقير اليوم حين يعطى شيئا من الأرز أو البر أو غيرهما من الحبوب !! هل سيقوم بحاجته وكفايته ؟ أم أنه سيسبب له حرجا وعناء كبيرا ؟! إنه حتى يطعم نفسه وعياله من الحبوب , يحتاج قبل ذلك إلى طحنها , ثم يحتاج بعد ذلك إلى طماطم ، وبصل ، وزيت ، وملح ، ودجاجة ، أو نصفها على الأقل . ثم يحتاج إلى ما ينضج به الطعام ، من فرن ، أو ( قز ) واسطوانة غاز , وقد لا يكون مالكا لهذا كله , وإن وجد البعض قد لا يجد البعض الآخر. تخيل لو أن فقيرا هذه حالته , أليست الصدقة تضاعف عليه حسرته وكربته؟ إذن لماذا لا نفكر بشيء آخر ينسجم مع مقاصد التشريع , ويحقق الهدف من الصدقة ؟ فما المانع أن نخرج صدقة الفطر مالا كما قال به الإمام أبو حنيفة الذي قال فيه الشافعي : الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه . وكما أخرج ابن أبي شيبة في " المصنف " أن عمر بن عبد العزيز – خامس الخلفاء الراشدين - كان يكتب إلى عماله في صدقة الفطر : أن يخرجوها نصف صاع عن كل إنسان ، أو ما قيمته نصف درهم . لماذا لا تُخرج القيمة وقد كان على هذا عمل المسلمين وعلمائهم بين أظهرهم في زمن الرقي العلمي والديني ؟؟ ولماذا لا ندع الناس يعملون بهذا المذهب وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى , في الحين الذي يلبي حاجات الفقراء والمحتاجين ؟!! ثم نتساءل مرة أخرى , متى يجوز إخراج صدقة الفطر ؟ لماذا نصر على إخراجها في ليلة العيد فنضيق على أنفسنا , وعلى المحتاجين , ونخنق أنفسنا في ليلة العيد لنظل محتارين , والوقت لا يكاد يسعفنا في إيصالها للفقراء ؟؟ هل يوجد نص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم يحدد وقت إخراجها ؟ لماذا حيث إنه لا نص في الموضوع لا تُخرج الصدقة من أول الشهر كما يفتي به الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ؟ ففي هذا مساحة واسعة ووقت نستطيع فيه إيصال الزكاة إلى مستحقيها من غير عناء ولا مشقة كما هو الحاصل . وحتى لا نضيق على أنفسنا أو لا تساعدنا الظروف , ما الحرج إذا تأخرت الصدقة حتى عن يوم العيد إذا تم خزنها وإعدادها ثم البحث عن مستحقين لها؟ وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن رجل أخرج الزكاة لكنه لم يعطها أحدا؟ فقال : إذا أعدها لقوم . يعني جاز. ونتساءل كذلك لماذا لا يجوز تقنين مسائل الزكاة , وتؤدى تحت إشراف مؤسسات حكومية منظمة حتى تؤتي أكلها ؟! وحيث كانت الصدقة لمحاربة الجوع والفقر , لماذا لا يجوز نقلها إلى بلد آخر يقتل الجوع فيه أهله , كما هو الحال في الصومال ؟ لماذا نعرض عن آراء كثير من الفقهاء الذين يرون الجواز , وفي هذا الرأي حل لأكبر مأساة يعيشها المسلمون اليوم ؟ أليس المسلمون جسدا واحدا وأمة واحدة ؟ أيعقل أن يكون نقل الزكاة لإحياء النفس الكريمة على الله إثما ؟!! أليس هذا غريبا ؟!! أليس غريبا أن نقول لمن كان بالدمام مثلا يجوز له نقل الزكاة إلى أطراف البلاد وبينه وبينها آلاف الكيلومترات , ولا يجوز نقل الزكاة لمن يجاوره في البحرين مثلا ؟!! هل يجوز في الإسلام أن تُكدس عندنا الصدقة فلا نجد لها مستحقا , وإخوان الدين على مرمى حجر منا يموتون جوعا ؟!! هل هذا مما ينسجم مع الدين وروعته وعظمته وإنسانيته وعالميته وتطلعاته وأهدافه وغاياته ؟! ألسنا بحاجة اليوم إلى إعادة النظر في هذه القضايا مع اختلاف الزمان واتساع رقة الإسلام وتغير المعطيات؟ لقد كان المسلمون جماعة قليلة حين فرض الرسول صلى الله وسلم صدقة الفطر , وكانت الأحكام تتأثر بالظروف وطبيعة الحياة , فما المانع من إعادة النظر وبلورة الفقه بما يناسب ظروفنا اليوم ، ويتفق مع تعاليم الإسلام التي تمتاز بالمرونة والتعامل مع كل زمن وحدث بحسبه ؟ هي أسئلة جالت بالفكر ، أطرحها بين يدي الفقهاء ، والعلماء الأجلاء ، ليعيدوا فيها النظر ، فإني أعايش كثيرا من هؤلاء الذين لا يزيدهم الأرز مهما غلا ثمنه ، إلا عنتا ومشقة ، إلا إن كان مثل أرز الآسيويين ، يأكلونه أبيض غير مملح ، وليس فيه أي إضافة ، إن كنا نرضى بهذا النوع من الأرز على موائدنا ، فلا بأس بالمضي على ما نحن عليه ، وإن كنا لا نرضى فإن من الواجب علينا أن نعيد النظر، حتى تؤتي الزكاة ثمرتها ، وتؤدي وظيفتها ، والله المستعان .