تختلف الأنظمة القضائية الحديثة في نظرها للمنازعات بين الأفراد وجهات الإدارة إلى اتجاهين مشهورين أحدهما يأخذ بنظام "القضاء الموحد" بأن تتولى المحاكم العادية وظيفة حسم كل المنازعات سواء كانت ناشئة بين الأفراد أنفسهم أو بين الأفراد والإدارة. ويأخذ بهذا النظام بشكل خاص بريطانيا إضافة إلى الولاياتالمتحدة والهند ودول أخرى. والقسم الآخر يأخذ بنظام "القضاء المزدوج" الذي يقوم على أساس وجود قضاء خاص مستقل بنظر المنازعات الإدارية فيفصل بين القضاء العام والقضاء الإداري. وتعتبر فرنسا مهد هذا النظام بصورته المعاصرة، كما تأخذ به إيطاليا وبلجيكا وتركيا ومصر والسعودية وغيرها من الدول. وبالرغم من اختلاف كلمة القانونيين حول أفضلية أي منهما على الآخر تبعاً لما يلحظونه من المزايا والعيوب، إلا أن هذا الاختلاف في عمومه لم يصل بهم مطلقاً لدرجة وصف أحد (...) النظامين بأوصاف مثل الفساد أو الشذوذ أو التشكيك في استقلاليته (...). وفي (...) سياق هذا الجدل الفكري اطلعت على منشور لفضيلة القاضي الدكتور ناصر بن زيد الداود بعنوان (وحدة القضاء) بصحيفة الوطن العدد الصادر في 21 رمضان 1432ه تضمن طرحاً غير مسبوق لما حواه من التجني والحدة والشطط (...) الذي لا تحتمله طبيعة هذا الموضوع. ليس صحيحاً أن فصل القضاء الإداري عن العام يعتبر أمراً فرضه انتشار الفساد القضائي واستبداد النظام الحاكم، إنما جاء هذا الفصل نظراً لاختلاف القضاءين في إجراءاتهما وقواعدهما وطرق الإثبات أمامهما فوحدة القضاءين أو ازدواجهما لا تعدو أن تكون (...) شكلا تنظيميا ينشد المصلحة العامة ويراعي طبيعة المنازعات المطروحة أمام القضاء وذاتية القواعد والمبادئ الخاضعة لها والتي تجتمع على أصل وغاية واحدة وهي العدل. وإذ اشتمل مقال فضيلته على العديد من المغالطات والتناقضات والانتقاص غير المبرر والأوصاف غير المقبولة للقضاء الإداري السعودي؛ وكنت أحد أبناء ديوان المظالم الذين تشرفوا بخدمته والعمل تحت مظلته أكثر من عشر سنوات أفدت خلالها الكثير من مبادئه المشرقة وقواعده العادلة وطريقته المحمودة التي شهد لها القاصي والداني حتى أصبحت محل فخر واعتزاز لهذه الدولة المباركة بما أخرجه هذا الديوان المبارك وأسسه من إرث قضائي نفاخر به الأنظمة القضائية في العالم؛ فإنه لم يعد يسعني إلا الدفاع عن هذا القضاء وبيان شيء يسير من فضائل استقلاله ومحامد فصله التي أثق أنها لا تخفى على ولاة أمر هذه البلاد الذين اختاروا هذا النظام وأدركوا مزاياه ولقي منهم ديوان المظالم البذل السخي والدعم المتواصل منذ إنشائه وحتى اعتلائه مدارج التطور وصولاً إلى عهد خادم الحرمين الشريفين - أيده الله وحفظه - الذي أسس لقضاء المظالم في ثوبه الحديث، وفتح له عبر نظامه الجديد آفاق القوة وأسس الاستقلال ومنحه من الصلاحيات والاختصاصات ما يؤكد نجاح هذه التجربة وريادتها وثقة الدولة في رجالها الذين أنجزوها وقاموا بأعبائها على مدى عشرات السنين. وفي مناقشة ما تضمنه مقال فضيلة الشيخ الداود من ملحوظات أقول: أولاً: أكد فضيلته (أن نظام القضاء الموحد ودمج القضاء الإداري في القضاء العام يعتبر سمة كل نظام عادل يثق في قضائه، وأن نظام وحدة القضاء هو المؤشر (الأوحد) على ثقة الدولة في إدارتها، وفي قضائها، وفي قضاتها، وفي قانونها العام، ولذلك لم يبتدعه إلا من ابتلي بالفساد الإداري والقضائي)!. إذاً فمعنى ذلك أن نظام القضاء المزدوج وفصل القضاء الإداري عن العام الذي تأخذ به المملكة منذ بدايات ظهور قضاء المظالم فيها يعتبر دليلاً على عدم ثقة الدولة في قضائها ولا قضاتها ولا إداراتها الحكومية! وهذا معنى قوله: (نظام وحدة القضاء هو المؤشر الأوحد على ثقة الدولة في قضائها). كما يعني ذلك أن أي نظام يختار أسلوب القضاء المزدوج ويفصل القضاء الإداري عن العام أنه نظام غير عادل! وفاسد إدارياً وقضائيا!. ثم تأمل عبارات القطع والجزم عندما قرر بأن الفصل بين القضاءين "لا يبتدعه إلا من أبتلي بالفساد الإداري والقضائي" بعد أن استهل مقاله بتأكيد وحدة القضاء في الدول السعودية الثلاث حتى عهد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -، فهل كان نشوء ديوان المظالم مؤشراً على هذا بداية هذا البلاء، أم أن قوله: (وفي السنة التي توفي فيها المؤسس يرحمه الله اقتضى نظر القيادة أن يفصل القضاء الإداري عن القضاء العدلي بتشكيل دائرة للمظالم في ديوان مجلس الوزراء) يعني أن بداية الخلل من خطة الشذوذ التي اقتضاها نظر القيادة. أعتقد أن هذا مجرد الاقتباس من مقاله وإبرازه كاف لبيان فساد الرأي وقصور النظر فلا أحتاج للرد عليه لأن بطلانه مما لا يخفى على العقلاء فضلاً عن المنصفين فضلاً عن المتخصصين. ثانياً: يؤكد فضيلته أيضاً أن نظرية الفصل بين القضاءين أنتجتها الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر بعد ظهور الفساد القضائي وتعسف النظام الحاكم، ويحاول الربط بين ذلك وبين ظهور قضاء المظالم في المملكة قائلاً: "ان وحدة القضاء هي الأصل في نظام الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة.."، ثم قال: "وفي السنة التي توفي فيها المؤسس يرحمه الله اقتضى نظر القيادة أن يفصل القضاء الإداري عن القضاء العدلي.." فهل اتجهت قيادة المملكة إلى فصل القضاء الإداري عن القضاء (العدلي) لنفس الأسباب، أي بسبب ظهور فساد القضاء وتعسف النظام الحاكم!. وهذا الكلام أيضاً مما قد يستغنى بإيراده عن الرد عليه، لكنني مع ذلك أوضح: أن من الحقائق التي يثبتها ويؤكدها كل المؤرخين والباحثين في السياسة الشرعية في القديم والحديث؛ أن ولاية المظالم وقضاء المظالم الذي اختارته المملكة - حرسها الله - إنما هو نظام إسلامي أصلي راسخ بامتياز في مسماه (ديوان المظالم) وفي مضمونه ومحتواه. مما يؤكد أصالة هذه الدولة وحرصها على التمسك بالإرث الإسلامي الكبير ويظهر ذلك بجلاء تمسكها بذات المسمى الذي لم تتنازل عنه مع تحديثها لنظامها القضائي لما لهذا الاسم من رسوخ وأصالة ودلالات مهمة تؤكد مع ما سأبينه لاحقاً بأن ما ارتضته من فصل قضائها الإداري ليظهر في أجلى صور الاستقلال وأبهى حلل التخصص هو مفخرة من مفاخرها لا شذوذاً وعواراً وفساداً. وحكام الدولة السعودية في مراحلها الثلاث لم يفصلوا قضاء المظالم عن القضاء العام لأنهم كانوا يباشرون بأنفسهم النظر في تظلمات الناس من أمراء الدولة وكبار موظفيها وهو ما استمر عليه الملك المؤسس عبدالعزيز - رحمه الله - وبعد موته واتساع الدولة وظهور الوزارات والإدارات المتعددة وتنوع النشاط الإداري وتطوره وفق التنظيم الحديث وصعوبة استيعاب الملك بنفسه لكل أنواع التظلمات اقتضى نظر ولاة الأمر إنشاء قضاء المظالم لتولي هذه المهمة الجسيمة وفق ما عليه أساس هذه الدولة من تحكيم الكتاب والسنة والتزام العدل بين الرعية. فالتطور التاريخي نفسه لقضاء المظالم في المملكة - الذي أشار له فضيلته - مطابق أيضاً للتطور الذي مرّت به ولاية المظالم في الإسلام منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أجمع مؤرخو الإسلام ومن كتب في هذا الموضوع من السابقين واللاحقين وهو ما تشهد له أيضا السنن والآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده خلفاؤه الراشدون كانوا ينظرون بأنفسهم في تظلمات الرعية من الولاة والعمال ويفصلون فيها وينصفون المظلوم. والأحاديث والآثار في ذلك أكثر من أن تحصى أو تروى في هذا الموضع وهي معلومة مشهورة لكل مطلع. ثم بعد الخلافة الراشدة مضى بعض الخلفاء على ذلك إلى أن اتسعت الدولة الإسلامية وتباعدت أطرافها فكان أول من أفرد للمظالم قاضياً خاصاً عبدالملك بن مروان كما ذكر ذلك الماوردي في الأحكام السلطانية وابن العربي في أحكام القرآن ثم جرى بذلك العمل في كل دول وممالك الإسلام فمنها من يسمي ذلك "ولاية المظالم" ومنهم من يسميه "ديوان المظالم" أو "خطة المظالم" كما في الدولة الأموية في الأندلس. وإن كان هناك من فرق بين القضاء الإداري الحديث وبين ولاية المظالم في التاريخ الإسلامي القديم إلا أنهما متفقان في اختصاص كل منهما بنظر تظلمات الرعية من جور وظلم الولاة وموظفي الدولة الكبار وهو تماماً ما ينطبق على تظلمات الأفراد من تصرفات وأعمال جهات الإدارة التي حلت محل الولاة والعمال. كما يتفقان في بعض القواعد والأصول التي تحكم عملهما والتي من أهمها السلطة الواسعة لقاضي المظالم في وسائل الإثبات. إذاً فليس دقيقاً قول فضيلته إن قضاء المظالم والفصل بينه وبين القضاء (العدلي) مما أنتجته الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. ثالثاً: يؤكد فضيلته أيضاً أن فكرة ازدواج القضاء ما هي إلا حل طارئ واستثنائي يلجأ إليه عند انتشار الفساد والظلم وبالتالي فإنه يزول بزوال أسبابه ويجب الرجوع إلى الأصل (وحدة القضاء) التي تعزز الثقة بين الحاكم والشعب، كما أنها تحقق العدل بين الأفراد والمؤسسات وجهات الإدارة بتوحيد إجراءات التقاضي في كل منها، وتحقيق مبدأ المساواة أمام القضاء في أجلى صوره؛ مما يقلل من اختراق المؤسسة القضائية من الخارج، أو انحرافها من الداخل. ومناقشة ذلك من وجوه: ليس صحيحاً أن فصل القضاء الإداري عن العام يعتبر أمراً فرضه انتشار الفساد القضائي واستبداد النظام الحاكم، إنما جاء هذا الفصل نظراً لاختلاف القضاءين في إجراءاتهما وقواعدهما وطرق الإثبات أمامهما فالقضاء العام يقوم على تطبيق أحكام الفقه والنظام فدوره تطبيقي ينحصر في إنزال الأحكام المقررة مسبقاً على الوقائع المعروضة أمامه بعد قيامه بمهمة إثباتها، بينما القضاء الإداري كما يعرفه المتخصصون (قضاء إنشائي) أي أنه يضع لنفسه القواعد والمبادئ التي تتجدد وتتطور تبعاً لتطور الأنظمة والأعراف الإدارية والسلوك والنشاط الإداري فهو وإن كان يرجع إلى قواعد عدالة عامة ومقاصد أساسية ونصوص شرعية ونظامية إلا أنه يستحدث من المبادئ ما يحتاج إليه لحل مستجدات المنازعات الإدارية الطارئة منطلقاً في ذلك من دستور هذه الدولة القائم على أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها بالدرجة الأولى. لذا كان القانون المدني مكتوباً ومدوناً بخلاف القانون الإداري الذي اتفقت كلمة فقهاء القانون على أنه قانون غير مكتوب لأنه من صنع القضاء نفسه. وعلاوة على هذا فإن مراكز الخصوم في المنازعات العادية تختلف عنها في المنازعات الإدارية فهي متساوية في الأولى لقيامها على نظر مصالح خاصة لا ترجيح لأحدها على الآخر، بينما تعلو المصلحة العامة في المنازعة الإدارية التي تمثلها جهة الإدارة على مصلحة الفرد الخاصة، وحينها لا يملك القضاء الإداري إلا أن ينشأ قواعد ومبادئ خاصة بتلك المراكز غير المتساوية، مع النظر لأثر انحراف الإدارة عن هذه الغاية المرجحة لكفتها في الدعوى. ثم على فرض صحة القول بأن استقلال القضاء الإداري عن العام أمر تطلبه انتشار الفساد والظلم، فلا أعتقد أن فضيلته أو أي عاقل يقول إن الفساد والظلم كان موجوداً في هذه الدولة منذ بداياتها عند إنشاء ديوان المظالم وأنه الآن غير موجود أو في طريقه للزوال! بل من سنن الله الكونية أن الفساد والظلم موجود في كل زمان ومكان وأنه ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه، إلا أن وجود ولي أمر يرفض الظلم ويحاربه ويحب العدل ويسعى إليه ويضع من التنظيمات ما يعينه على تحقيق ذلك ويفتح باب معاقبة ومحاسبة كل ظالم ومخطئ من موظفي الدولة الكبار قبل الصغار؛ أن ذلك هو المكسب الحقيقي الذي نحمد الله عليه. أنه لا يمكن وصف كل النزاعات التي ينظرها القضاء الإداري بأنها من باب الظلم والفساد، بل كثير منها يعتبر من باب الاجتهادات التي تصدر عن جهات الإدارة أثناء قيامها بأعمالها بما لها من سلطة وصلاحيات، وقد أتاح النظام لكل من تمسه تلك التصرفات والقرارات أن يلجأ إلى القضاء بطلب إلغائها أو التعويض عن الضرر اللاحق به بسببها ثم يحكم بعد ذلك القضاء الإداري بإلغاء هذا القرار أو التصرف الإداري أو التعويض عنه ولا يعني ذلك أن القرار الملغى ظلم وفساد واستبداد بل قد يكون اجتهاداً يختلف معه القضاء. أن من التجني والمبالغة غير المقبولة أن يؤكد فضيلته أن إلغاء فصل القضاء الإداري عن العام يؤدي إلى تعزيز الثقة بين الحاكم والشعب فالثقة بين الحاكم والشعب في كل دول العالم المتحضر وفي هذه الدولة خصوصاً لا صلة لها بهذه المسألة ولا يزعزع ثقة الشعب في الحاكم أخذ الدولة بأي من هذين الأسلوبين في القضاء. وماذا عساه أن ينتج في هذه الثقة تبعية القضاء الإداري لوزارة العدل أو انضواء قضاته لمجلس آخر غير مجلسهم. أما قول فضيلته إن وحدة القضاء تحقق العدل بين الأفراد والمؤسسات وجهات الإدارة بتوحيد إجراءات التقاضي في كل منها، وتحقيق مبدأ المساواة أمام القضاء؛ فإن تحقيق العدل لا يتوقف على توحيد إجراءات الدعوى الإدارية والدعوى العادية، فهذا أمر ترفضه طبيعة المنازعة الإدارية ولا يتفق مع مصلحة الدعوى فيها كما يعلم ذلك المتخصصون جيداً. كان هذا ما تيسر وفي جزء لاحق - بإذن الله - أستكمل مناقشة مقال فضيلة القاضي ناصر الداود آملاً أن يتسع صدره للنقاش فما منا إلا راد ومردود عليه والحمد لله أولا وآخرا. * القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حاليا